بقلم: ريم محمّد عيد رمضان
تدقيق: هادي محمود نصّار
تَظلُّ ظاهِرَةُ التَّسوُّلِ فِي الشَّوارعِ وصمَةً قاسِيةً علَى جَبينِ أيِّ مُجتَمعٍ يَطمحُ للرّقِيِّ والعَدالَة، فَهِي لَيسَت مُجرّدَ مَشهدٍ عابِرٍ لطلَبِ العَون، بَل هِي تَجلٍّ عَميقٌ لأعطابٍ مَنظومِيّةٍ تتَشابَكُ فِيها خُيوطُ الفَقر، والبِطالَة، وغِيابِ شَبَكاتِ الأمانِ الاجتِماعِيِّ الكافِيَة. المُتسوِّلونَ هُم شَواهِدُ حَيّةٌ علَى هَوامشِ التَّنمِيَة، يكتَنِزونَ قِصَصاً خَلفَ نَظراتِهمْ الشّارِدَة، وهُم يَقِفونَ علَى مُفتَرقِ طُرقِ الحَياة، حَيثُ تتآكَلُ الكَرامةُ تَحتَ وطأَةِ الحاجَةِ المُلحَّة. يَرتَسمُ مَشهَدُ المُتسوِّلِ علَى الأرصِفةِ إِعلاناً صارِخاً عَن فَشلٍ فِي احتِواءِ الضَّعفِ البَشرِيّ، إذ يَتحوَّلُ الإستِجداءُ إلى مِهنةٍ قَسريّةٍ تُمارَسُ تَحتَ سَماءِ اللّامُبالاة. فَهلِ التَّسوّلُ نِتاجُ قَدرٍ أعمَى أمْ هُو ثَمَرةُ سِياساتٍ اجتِماعيَّةٍ واقتِصاديَّةٍ عاجِزةٍ عَن صِيانةِ الحدِّ الأدنَى مِن العَيشِ الكَريم، وكَيفَ يُمكِنُ للمُجتَمعِ الحَديثِ أن يَتَصالحَ معَ وُجودِ هذهِ الفِئةِ دُونَ أنْ يُفرّطَ فِي مَبادئِ الإنسانيَّةِ والعَدالَةِ الّتِي يَدَّعِيها؟
إنَّ التَّسوّلَ لَيسَ مُعضِلةً فَرديَّة، بَل هُو تَداعٍ مُتجذّرٌ لتَصدُّعاتٍ فِي الهَيكلِ الاجتِماعِيِّ والاقتِصادِيّ. فجُذورُ الظّاهِرةِ تَتشَعّبُ لتصِلَ إلى الفَقرِ المُدقَعِ الَّذي يَعصفُ بقِطاعاتٍ واسِعَة، وتَفاقُمِ مُعدّلاتِ البطالَةِ الَّتي تُحيلُ الأيدِيَ العامِلةَ إلى أيدٍ مُستَجديَة، بالإضافَةِ إلى التَّفكُّكِ الأسَريِّ ونَقصِ الدَّعمِ الحُكوميِّ للمُهَمَّشين. يَتحوَّلُ الشّارِع، فِي هَذا السِّياق، مِن مَساحةٍ عامَّةٍ إلى مَسرَحٍ للأداءِ المَأساوِيّ، حَيثُ يُضطَرُّ الفَردُ إلى تَسليعِ مُعاناتِه لاستِدرارِ العَطف. وفِي الجانِبِ المُظلِم، يُستَخدمُ التَّسوّلُ أحياناً كغِطاءٍ لأنشِطةٍ إجرامِيّةٍ مُنظّمَةٍ تَستغِلُّ الضُّعَفاء، وخاصَّةً الأطفَال، لتَحقيقِ مَكاسِبَ غَيرِ مَشروعَة، مِمّا يُضيفُ بُعداً أمنِيّاً خَطيراً إلى المِحنَةِ الاجتِماعِيَّة.
يُمثّلُ استِغلالُ الأطفالِ فِي التَّسوّلِ أحد أبشَعِ صُورِ الانحِدارِ الأخلاقيِّ للمُجتَمَع. فالطِّفلُ المُتسوِّلُ لَيسَ مُجرَّدَ طالِبِ مَال، بَل هُو ضَحيَّةٌ مُجرَّدةٌ مِن أبسَطِ حُقوقِها في اللَّعِب، والتَّعلِيم، والأمَان. يُلقى بِه فِي دَهاليزِ الشّارِعِ القاسِيَة، حَيثُ يَتعرَّضُ لمَخاطِرَ شتَّى مِن عُنفٍ واستِغلالٍ وانتِهاك، بَينَما تَتشكَّلُ روحُهُ ووِجدانُهُ تَحتَ ضَغطِ الحاجَةِ المُستمرَّةِ والخَوفِ الدّائِم. تَضيعُ سِنينُ عُمرِهِ الغَضّةُ بَينَ تَقاطُعاتِ الطُّرقاتِ وأبوابِ المَتاجِر، ويتَشوَّهُ مَفهومُهُ لِلحياةِ والعَمَل. إنَّ بَراءةَ الطُّفولةِ الَّتي تُستَغَلُّ فِي هَذا السِّياقِ تتَحوَّلُ إلى رأسمالٍ يُدِرُّ الرِّبحَ علَى المُستغِلِّين، وتُلقي بظِلالِها المُظلِمَةِ علَى مُستقبَلِ جيلٍ بأكمَلِه.
فِي زاويَةٍ مُهمَلةٍ عندَ أحدِ التَّقاطُعات، اقتَربتُ مِن طفلٍ لا يَتجاوَزُ عُمرُهُ العَشرَ سنوَات، كانَ يَرتدِي ثياباً باليَةً ويتَشبَّثُ بِقطعةِ خُبزٍ جافَّة. سألتُهُ بلُطف، وقَد حاولتُ جاهِداً أنْ أخفِي مَرارةَ المشهَد:
- أنا: «ما اسمُك يا بُنَيّ، ولمَاذا تَجلِسُ هُنا وَحدَك تحتَ حرارةِ الشَّمسِ القاسِيَة؟ أينَ مَدرستُك ورِفاقُك؟»
- الطِّفل (اسمُه أدم، بصوتٍ خافتٍ مُثقَلٍ بالحُزن): «اسمِي آدم يا سيِّدتي. أنا هُنا لأنّ… لأنّ بطنِي لا تَنتَظِرُ المَدرسة. إذا لَم أَجمَع بعضَ النُّقود، فَستَنامُ أُمّي وإخوَتيَ بِلا عَشاء. المدرَسةُ حُلمٌ جمِيل، لكنَّها لا تُطعِمُنا خُبزَ اليَوم. هل تَرينَ هذهِ الشَّمس؟ هيَ أرحمُ من نَظراتِ بعضِ المارَّةِ الّتي تَختَرِقُني بالاشمِئزاز».
- أنا: «ألا تَحلُمُ بحياةٍ مُختَلِفَة؟ بعملٍ شرِيف، أو مَقعدٍ فِي الفَصل؟»
- أدم (بعَينينِ لامِعتينِ بدَمعٍ مَحبوس): «أحلُم، بالطَّبعِ أحلُم. أَحلُمُ بأنْ أرتدِيَ حِذاءً لا يَتسرَّبُ إليهِ المَطر، وبأنْ أقرأَ قِصَصاً بدلاً مِن قراءةِ وُجوهِ النّاسِ الغريبَة. ولكنْ هُنا… فِي هَذا الشّارع، أحلامُنا تَتوقَّفُ عندَ العُملةِ المعدنيَّةِ الأخيرَة. الكَرامةُ يا سيِّدتي، هِي تَرفٌ لا نَعرِفُ كيفَ نُحافِظُ علَيه، فالبَقاءُ هُو كلُّ ما نَعرِفُه»
إنَّ مُجابهةَ ظاهرةِ التَّسولِ تَتطلَّبُ استراتيجيّةً شاملةً تَتجاوزُ الحُلولَ الأمنِيّةَ السَّطحيّةَ إلى مُعالجةِ الجُذور. يَجبُ تَفعيلُ برامجِ الضَّمانِ الاجتماعِيّ، وتَوفيرُ فُرصِ عَملٍ حَقيقيّةٍ ودَوراتِ تأهِيلٍ مِهنيّ، وشَنُّ حَملاتٍ صارمةٍ ضِدَّ عِصاباتِ استغلالِ الأطفَال، مَع تَوفيرِ مَلاجئَ آمِنةٍ ودَعمٍ نَفسيٍّ وتَعليميٍّ للضَّحايا. إنَّ الكَفَّ عن مُجرّدِ إعطاءِ المَالِ بطريقَةٍ عَشوائيّةٍ وتَحويلِ التَّبرّعاتِ إلى قَنواتٍ مُؤسّساتيَّةٍ مَوثوقةٍ هوَ الخُطوةُ الأُولَى لقَطعِ الطَّريقِ أمامَ المُتسوّلينَ المُحترفينَ وحِمايةِ المُحتاجينَ الحَقيقيِّين. يَجبُ أنْ يَتحوَّلَ التَّعاطفُ العابِرُ إلى مَسؤوليّةٍ اجتمَاعيّةٍ مُلزمة. ولكِن، هلْ يُمكنُ لوَعيٍ جَماعيٍّ مُتجدِّد، يَرفعُ مِن قِيمةِ الإنسانِ فَوقَ كُلِّ اعتبارٍ اقتصَاديّ، أن يَكونَ هوَ المِفتاحَ السِّحريَّ لإِعادةِ دَمجِ هَؤلاءِ العابِرينَ فِي نَسيجِ المُجتمَع، ووَضعِ حَدٍّ فاعِلٍ ومُستدامٍ لِظاهرةِ التَّسولِ الَّتي تُخجِلُ إنسانيّتَنا جَميعاً؟
