بقلم: علي رضوان سعيد
تدقيق : فاطمة محمّد صالح الموسويّ
شهِدَ لبنانُ هَذا العامَ واحِداً مِن أكثرِ المَواسمِ المطريّةِ جفافاً فِي تاريخِهِ الحديثِ معَ تراجُعِ الأمطارِ إلَى نصفِ معدلاتِهَا تقرِيبا. هذَا الشُّحُّ المائيُّ لَم يترُك فقَط أنهَاراً وسُدوداً فارِغة، بَل طرحَ سُؤالاً مُقلقاً : إلَى أيِّ حدٍّ يستطِيعُ لبنانُ الصُّمودَ أمامَ جفافٍ يُحاصِرُ الزّراعةَ والكهرباءَ والمِياه؟
علَى أطرافِ سَهلِ البِقاع، يقفُ “أبو حُسين” ، وهُو أحدُ مزارعِي المِنطَقة، مُتأملاً أرضَهُ المتشقِّقةَ بعدَ صيفٍ خسرَ فيهِ قِسماً كبيراً مِن مَحصولِه. يقولُ “أبو حُسين” : “الذّرةُ والقمحُ ذبلَت قبلَ أوانِها، والريُّ منَ الآبارِ شكّلَ عبئاً ماليّاً يفوقُ قُدرتِي”. اليَوم، ومعَ اقترابِ الخرِيف، لا يملُكُ الرّجلُ سِوى الأملِ بموسمٍ مَطريٍّ يعوّضُ بَعضاً مِن خسائرِهِ ويمنحُ أرضَهُ فرصةً لِلحياةِ مِن جدِيد.
علَى صعيدِ الموسمِ المطريِّ الخجُول، جاءَت أرقامُ وِزارةِ الطّاقةِ والمياهِ صادِمة، حيثُ تراجعَ هطولُ الأمطارِ هذَا العامُ بِنسبةِ 51% مقارنةً بالمُعدلِ العَامّ، فِي حينِ انخفضَ عددُ أيامِ المطرِ مِن نحوَ 75 يوماً سنويًّا إلَى 45 فقَط. النَّتيجةُ المُباشرةُ والواضِحةُ ظهرَت فِي مُستوى مياهِ البُحيراتِ والسُّدود. علَى سبيلِ المِثال، فِي بحيرةِ القرعونِ أكبرِ بحيرةٍ فِي لُبنان، لَم يتجَاوز مُستوى المياهِ نحوَ 45 مليونَ مترٍ مُكعّب، فِي حينِ إنَّ المُتوسطَ السَّنويَّ يُناهزُ 350 مليونَ مترٍ مُكعّب.
وبِحسبِ بعضِ التَّقارِير، إنَّ أكثرَ مِن 1.8 مليونَ لبنانيٍّ يعِيشونَ فِي مناطقَ شَديدةِ التَّأثرِ بالجَفاف. ويعتمدُ نحوَ 44% من السُّكانِ علَى شاحناتِ المياهِ (السِّيترن) بأسعارٍ مُرتفعةٍ وجودةٍ مشكُوكٍ بِها. فِي البِقاع، يشكُو المُزارعونَ مِن تضاعُفِ تكلفةِ الريِّ بسببِ الإعتمادِ علَى الآبارِ والمُولِدات. “أبو حُسين” يَقولُ: “صِرنا نِزرع علَى خسَارة، الأرِض عطشَانة والمَردود مَا بيسدّ التّكلفة”.
لَم تقتَصرِ الآثارُ علَى المياهِ والزِّراعةِ فحَسب، فالجفافُ انعكسَ أيضاً علَى إنتاجِ الطَّاقةِ الكهرُبائيّة، إذْ تراجعَ مردُودُ السُّدودِ بِشكلٍ كَبير، مَا زادَ الضَّغطَ علَى شبكةِ الكهرباءِ المُتعثرةِ أصْلا. ففِي البقاعِ الغَربيّ، ومعَ انخفاضِ مَنسوبِ بحيرةِ القَرعونِ نحوَ 60-65٪، توقّفَ معملُ “عبدِ العالِ” الكهربائيّ، وتقلّصتِ التَّغذيةُ مِن نحوَ 20 ساعةً يوميّاً إلَى مَا بينَ 10 و12 ساعةً فقَط، ما أجبرَ الأهالِي علَى الإعتمادِ بشكلٍ أكبرَ علَى المُولداتِ الخاصّةِ بتكاليفَ تفوقُ قدرتَهُم.
بالمُوازاة، يحذّرُ خبراءُ البيئةِ مِن أنَّ مَا يشهدُهُ لبنانُ ليسَ مجرّدَ سنةٍ جافَة، بِل هِي جزءٌ مِن نمطٍ مُرتبطٍ بالتّغيرِ المُناخيِّ العَالميّ، وقَد يتكرَّرُ أو يسودُ لسنَوات. وبالتَّالي فَقد تتَفاقمُ المشكلةُ بسببِ سوءِ إدارةِ المواردِ المَائية. ويؤكّدُ الخُبراءُ علَى ضرورةِ وضعِ سياساتٍ جديّةٍ لترِشيدِ الإستهلاكِ أَو تطويرِ مشَاريعِ تحليةٍ كحلُولٍ حانَ الوقتُ للُّجوءِ إليهَا.
فِي المُحصِلة، يظهرُ جفافُ هذَا العامَ كجرسِ إنذارٍ خطيرٍ يُنبهُ إلَى هَشاشةِ الأمنِ المائيِّ فِي لُبنان. ومعَ اقتِرابِ الخَريف، يترقبُ اللُّبنانيونَ مَا إذَا كانَ الشِّتاءُ المقبلُ سيعوّضُ خَسائرَ هذَا العَام. لكِنَّ السُّؤالَ الّذِي يفرضُ نفسَه: هَل يتمكّنُ لبنانُ مِن تحويلِ أزمةِ الجفافِ إلَى فرصةٍ للإصلاحِ فِي إدارةِ مَواردِه؟