بقلم: علي رضوان سعيّد
تدقيق: هادي محمود نصّار
يُفتحُ فِي لبنانَ مِن جَديدٍ بابُ النّقاشِ حَولَ قانُونِ الانتِخاب، وكأنَّ هَذا الاستِحقَاقَ قَدْ تحوَّلَ إلَى لعنَةٍ تُعيدُنا فِي كُلِّ مرَّةٍ إلَى النُّقطَةِ ذاتِها، سِجالٌ حولَ النُّصوص، وتنَازعٌ حولَ المَصالِح، وتمهِيدٌ لتَعطيلٍ يُخشَى أَنْ يكُونَ قَدْ بدأَ فِعلا. فبَعدَ اتِّفاقِ وقفِ الأعمالِ العِدائيَّة، وانتِهاءِ الفَراغِ الرِّئاسِيّ، كانَ الأمَلُ أنْ تَكونَ أولَى مُؤشِّراتُ العودَةِ إلَى الحَياةِ السِّياسيّةِ الطَّبيعيَّةِ هِيَ احتِرامُ المُهلِ الدُّستوريَّة. لكِن، بَدلاً مِن ذلِك، عادَ السِّجالُ مِن بوّابةِ المَقاعدِ السِّتةِ المُخصَّصةً للمُغتَربِين. وكمَا فِي كُلِّ مُنعطَفٍ لُبنانِيّ، لَا يَبدُو أنَّ الجَدلَ تِقنيّ بقدرِ مَا هُو صِراعٌ سياسِيٌّ مُقنِع. فهَلْ تكونُ هذهِ المَعركَةُ مجرَّدَ تفصيلٍ انتِخابِيّ، أمْ بوّابَةً إلَى أزمَةٍ سياسِيّةٍ أوسَع؟
في تَفكيكِ المَواقِف، يُمكِنُ فَهمُ المَنطِقِ المُبطَّنِ لِكلِّ طَرَف. فَمِن جِهَة، يَبرزُ “الثُّنائيُّ الشِّيعيّ” ومَعهُ حُلفاءُ آخَرونَ يَتَمسَّكونَ بالقانونِ النافِذِ ويَرفُضونَ التَّعديل. هذا التّمسُّكُ نابِعٌ مِن خَشيَةٍ انتِخابيّةٍ واضحَة، فالتَّجرِبةُ السّابقَةُ أثبَتَت أنَّ اقتِراعَ المُغتَربينَ ضِمنَ دَوائرِ قَيدهِم، قَد يَفتحُ البابَ أمامَ تَغييرٍ غَيرِ مَحسوبٍ فِي مَوازينِ القِوّى. لِذا، فإنَّ الإصرارَ علَى تَطبيقِ القَانونِ كمَا هُوَ يَهدفُ في جَوهَرِهِ إلَى تَقييدِ تَأثيرِ صَوتِ الانتِشار، حِفاظاً على التَّوازُناتِ الحاليّةِ داخِلَ البَرلمَان. وبالنِّسبَةِ لِهذا الفَريق، فَتحُ الدَّفاتِرِ الآنَ يُشكِّلُ مُغامَرةً غَيرَ مَضمونةِ النَّتائِج، وقَد يُؤدّي إلى خَلطِ أوراقٍ هُم فِي غِنى عَنه، خُصوصاً فِي ظِلِّ التَّحوُّلاتِ الإقليميّةِ والمَحلّيَّة. ومِن زاوِيةٍ أُخرَى، يُمكِنُ تَفهُّمُ مَخاوِفِ هذا الفَريقِ مِن أنَّ بَعضَ الدُّولِ الّتِي يَنتشِرُ فِيهَا اللُّبنانيّونَ لَيست بيئَةً حِياديَّة، بَلْ قَد تَكونُ علَى خُصومَةٍ أوْ مُعاداةٍ لَه، ما يَجعَلُ حُرِّيّةَ النّاخِبِ هُناكَ مَوضِعَ شَكّ، ويُبرّرُ تَحفُّظاتِهِ ولَو جُزئيّا.
بِالمُقابِل، تُصرُّ الأطرافُ الأُخرَى، وفِي طَليعَتِها حِزبُ القُوّاتِ اللُّبنانيّة، علَى إلغاءِ بَندِ المَقاعِدِ السِّتّة، أو تَعديلِهِ جَذريّاً لدَمجِ المُغتَرِبينَ فِي دَوائِرهِم الأصلِيَّة. هِيَ تَرى فِي هَذا البَندِ “خَلَلاً بُنيويّاً” ومُحاولَةً لعَزلِ المُغتَرِبين، وحِرمانِهِم مِنَ التَّأثيرِ الحَقيقيِّ فِي عَمليّةِ التَّمثيل. المُفارَقَةُ هُنا أنَّهُم هُم مَن كانُوا رأسَ الحَربَةِ فِي صِياغَةِ هذا القانُونِ الانتِخابيِّ وإِقرارِه. وبالنِّسبَةِ لَهُم، ما يُطرَحُ هُو تَصحيحٌ لخَطأٍ واضِح. هَذا المَوقِفُ وإن حَملَ مُبرّراتٍ حَولَ مَبدأِ المُساوَاة، فَهُو أَيضاً لا يُرى إلّا مِن زاوِيَةِ المَصلَحَةِ النِّيابيّةِ الّتي تَسعَى لزيادَةِ الحِصّةِ مِن أصواتِ الخارِج.
لكِن، خَلفَ هذهِ المواقِفِ المُعلَنَة، يَكمُنُ ما هُو أخطَرُ مِن مُجرَّدِ تَفصيلٍ قَانونِيّ. إِنَّ النِّقاشَ المُفتَعَلَ حَولَ المُغتَرِبينَ لا يَبدو بَريئاً بَل يُشبِهُ تَمهيداً مَدرُوساً لِنَوايا مُبيَّتةٍ قَد تَنتَهي بِالتَّمديدِ لِلمَجلِسِ النِّيابيِّ. الكُلُّ يُصِرُّ فِي العَلَنِ علَى إجراءِ الانتِخاباتِ في موعِدِها، لكِنَّ الإشَاراتِ علَى الأَرضِ تُوحي بالعَكس: لا تَحضيراتٍ جِدّيّةً حتّى اللَّحظَة، ولا تَوافُقَ علَى كَيفيّةِ إدارةِ العَمليّةِ الانتِخابيّة، ولا استِعدادَ لِخَوضِ مَعركَةٍ نَتائِجُها غَيرُ مَضمُونَة.
مُعظَمُ القِوى اليَومَ تُقارِبُ الاستِحقاقَ مِن زاوِيَةِ المَصلَحَةِ الحِزبيَّة، فَلا “الثُّنائيّ” يُريدُ اختِبارَ مَوازينِ القِوى في ظِلِّ التَّحوّلاتِ الإقلِيميّةِ الكُبرى، ولا الأطرافُ المُقابِلَةُ مُتيقِّنةٌ مِن حَتميّةِ أَن تَصُبَّ الظُّروفُ في مَصلَحَتِها.
هذهِ الرُّؤيَةُ تَحديداً تَنسَحِبُ حتّى على بَعضِ الدُّوَل، فَمِنَ المُؤكَّدِ أنَّ تَشكيلَ حُكومَةٍ جَديدةٍ بَعدَ الانتِخاباتِ تُشبِهُ الحُكومَةَ الحاليّةَ سَيكونُ صَعباً إذا لَم تُفرِزِ الاِنتِخاباتُ أَكثَريّةً واضِحَة. ومِن هذا المُنطَلَق، لَيسَ مُستَبعَداً أَن تَدفعَ بَعضُ الدُّوَلِ نَحوَ تَأجيلِ الانتِخاباتِ النِّيابيّةِ علَى قاعِدةِ “عَصفورٌ باليَدّ ولا عَشرَةٌ علَى الشَّجرة”.
وفِي هَذا المُناخِ المُعَلَّق، يُصبِحُ الجَدَلُ حَولَ المَقاعِدِ السِّتّةِ مُجرَّدَ مَمرٍّ لتَقطيعِ الوَقتِ وُصولاً إلَى ذَريعَةِ ضيقِ الوَقتِ أَو عَدمِ الجاهزيّة.
بكلامٍ آخَر، التَّمديدُ لَيسَ قَراراً سَيُعلنُ بجُرأَة، بَل هُو احتِمالٌ يَتقاطَعُ عَلَيهِ مُعظَمُ الأفرِقاء. فَلا أحَدَ يُريدُ تَحمُّلَ كُلفَةِ الانتِخاباتِ في تَوقيتٍ غَيرِ مَضمونِ النَّتائِج، ولا أحَدَ مُستَعدٌّ للمُخاطَرَةِ بخَسارَةٍ مُفاجِئَة. وهكَذا، تَتحوَّلُ القَوانينُ إلَى غِطاءٍ هَزيلٍ للنَّوايا المُرتَبكَة، وأدَاةٍ لتَفريغِ الوَقتِ بانتِظارِ تَفاهُمٍ أكبَرَ يُرضي الجَمِيع.
فِي المُحصِّلَة، لا تُقاسُ جِديّةُ الدَّولَةِ بالخِطاباتِ الرَّنانَة، بَل بِقُدرَتِها على احترامِ مَواعيدِها. التَّمديدُ الَّذي يَلوحُ في الأُفقِ يَحضُرُ كُلَّما خَشيَ أهلُ السُّلطةِ مِن صَناديقَ غَيرِ مَضمُونَة. فَهَل يَكونُ المُغتَرِبونَ “كِبشَ مَحرَقَةٍ” في سَبيلِ الانتِخاباتِ القادِمَة؟ أم مُجرَّدَ غِطاءٍ لِتأجيلٍ مُحتَمَل؟
