تحوّلت الحياة إلى صمتٍ ثقيلٍ، كأنّ الزمان توقّف فجأةً عن النبض، وغابت ملامح الهدوء التي كانت تملأ الزوايا لتسود فوضى عارمة، تسرق الأمان والأحلام، لم تعد الأصوات المألوفة ولا الأماكن كما كانت. هي لحظة انكسار الروح والأمل، حيث سبق الرعبُ زينةَ الحياة، واقتحم الخوفُ أبواب البيوت قبل أن تُفتح للفرح. في لحظة، تبدّل كلّ شيءٍ، وتقدّم الحزن على العيد، وانطفأت أمنيات الطفولة تحت ظلّ التهديد، قبل أن ترى النور. لم يعد هناك وقت للتفكير، ولا مجال للتردّد. سقط الخبر على قلبها كصاعقة، قطعت ما تبقّى من خيط الأمان، كلّ شيء تبدّل في لحظةٍ: نظراتها، خطواتها، وحتّى صوتها الذي ارتجف وهو ينادي على أسرتها. لم تكن تخشى على البيت بقدر ما كانت تخشى على من فيه — على الضحكات التي تملأه، على الذكريات التي تسكن جدرانه، وعلى الطفلة التي خبّأت فستان العيد وهي تبتسم للعتمة.
قلب “ندى” الصّغير كان يخفق بخفّةٍ، كفراشةٍ ترفرف داخل صدرها، تلمس فستانها الجديد، المرصّع بلمعان الطفولة، المخبّأ تحت وسادتها، تمرّر أناملها اللّطيفة عليه، وكأنّها تبحث عن طمأنينة بين خيوط القماش، تهمس في سرّها، سأرتديك غدًّا، وسأكون الأجمل، تحلم بقطعة حلوى ملوّنة، تلفّها ورقة لامعة، وبعيديّةٍ ملفوفة، تفوح منها رائحة العيد، وبضحكاتٍ مشبّعةٍ بالبراءة والشوق، وخيالها واسع يصنع من الغد لوحةً مزركشةً لا تشبة الأيّام، بانتظار أمّها توقظها على صوت التكبيرات وعبق البخور.
هي ليلة العيد المكسور المنذرة بصبحٍ باكٍ، ليلة الجمعة المذهّبة بالحزن والمسجّلة بالنّار، تلك كانت حلمًا صغيرًا يضيء عالمها، ويمنحها إحساس الدفء والفرح الحقّ، لكن بلحظةٍ واحدةٍ انقلبت الدنيا حولها، تلاشت الأحلام، واختفى الضوء الخافت في عينيها، وارتجف فستانها المرصّع، وتغيّرت ملامحها، وخفتت ضحكتها، وصارت كلماتها همسًا متقطّعًا، وازدحم البيت خوفًا، وكأنّ الجدران تحوّلت إلى حناجر تصرخ بصمتٍ.
لم تفهم “ندى” معنى”تهديد” لكنّها رأت حقيبةً تُحشى على عجلٍ، ودميةً ملقيّةً على سريرٍ دون وداعٍ، وفستانٍ ينتظر طفولة لم تكتمل،و… حاولت أن تسأل لمن ستترك كلّ أحلامها وفرحتها، ولكن قرأت بعيون الكبار أنّ: “الوقت ليس وقت أعياد”.”
مشت في زحمة الأشياء المتناثرة، والوجوه التوتّرة، كأنّها ظلّ لا يُرى، تشبّثت بكفّ أمّها، وفي قلبها يتمدّد الخوف كظلّ باردٍ لا ينحسر، اختلطت طفولتها بالرحيل والفرح المؤجل بالحزن المفاجئ، تائهةً، حائرةً، لا تعرف إن كانت تبكي على فستانٍ قد يدفن تحت ركام الذكرى، أم على جزءٍ منها خافت أن يذهب معه دون وداع، فالحزن بات سكونًا ثقيلًا يسكن عينيها، وقلبها امتلأ بشيءٍ لا يُرى ولا يُقال، يخفق بجنونٍ، كطبلٍ يُقرع في عتمة، فقط يُحسّ، كغصّةٍ ثابتةٍ في الحلق لا تخرج، وحزنها لم يكن صاخبًا، بل ناعمًا كالماء البارد حين يُسكب على جرحٍ مفتوح. هو انتظار بلا أملٍ، وذاكرة تنغرس في الروح كالخنجر، وتتساءل بصمتٍ:” أحقًا مضى الأمان؟ أضاع العيد طريقه إلينا؟
وبعد أن غفا الجميع وصمت اللّيل، فتحت عينيها، تحدّق في السقف كأنّها تنتظر إجابة من لا يجيب. كان الظلام الدامس يملأ الغرفة، لكنّ عينيها كانتا يقظتين، مثقلتين بما لا يُقال، تمرّ في ذهنها صور الحقيبة، الدمية، الفستان تحت الوسادة… تتمنّى لو كلّ ما حدث كان مجرّد حلمٍ طويلٍ، لكنّها تعلم تمامًا أنّ الحزن الحقيقيّ لا يُمحى بل يسكن، ويكبر بصمتٍ.
نعم! مع كل جزعٍ وهربٍ يولد الفراغ، ويُدفن ما لا يُعوّض، وتبقى نظرة تُقاوم الانهيار، وقلوب تُعلّق الأمل على العودة، لكنّ الإرادة لا تُقصف، والعزيمة لا تنهار. لأنّ البيوت قد تُهدم، والذكريات تتناثر بين الركام، لكن ما يسكن الروح من قوّةٍ لا يعرف الهدم، فبالإرادة ترتبط الكرامة، وتُبنى العزيمة من الحنين والإيمان، ومن حبّ الأرض وحقّ البقاء، ومن وجع الشتات تولد الجذور من جديد، ومن رماد المنافي ينهض الأمل كعنقاء لا تموت.
