بقلم: ريم محمّد عيد رمضان
تدقيق : فاطمة محمّد صالح الموسويّ
يُشكِّلُ التّنمُّرُ المدرسيُّ ظاهرةً عابرةً للجُدران، تندسُّ كظلٍّ باردٍ علَى مسيرةِ نُموِّ الأبنَاء، مُحدثةً فِي النّفسِ نُدوباً أعمقَ منَ الجسَد. إنَّهُ ليسَ مجرَّدَ شِجار، بَل سلوكٌ عدوانيٌّ مُتعمَّدٌ ومتكرِّر، يسعَى إلَى سحقِ الرّوحِ وإضعافِ الثِّقة. وفِي مُواجهةِ هذهِ الآفَة، تقفُ الأسرةُ كالمَعقِلِ الأوَّلِ وحِصنِ العاطفةِ المَنيع، فَهي المهندسُ الأوَّلُ لشخصيَّةِ الطّفلِ وسلوكِهِ الإجتِماعيّ، بينَما تُمثِّلُ المدرسةُ السّاحةَ الكُبرى للتّفاعلِ والإمتِحان. إنَّ تضافرَ جهودِ هذَينِ الكيانَينِ ضرورةٌ قُصوى لدرءِ هذهِ الآفَة. وبناءً علَى هَذا الدَّورِ المحوَريّ، كيفَ يمكنُ للأسرةِ والمدرسةِ أن تُمارِسا دورَهمَا الوقائيَّ والعِلاجيَّ للحدِّ مِن ظاهرةِ التّنمُّرِ فِي البيئةِ المدرسيَّة؟
يتجلَّى الدَّورُ الوقائيُّ للأسرةِ فِي تشييدِ البنيةِ النّفسيَّةِ السّليمَة؛ فتبدأُ الحصانةُ الدّاخليَّةُ مِن خلالِ غرسِ الثّقةِ بالنّفسِ وقيمةِ الذّاتِ لَدى الأبنَاء، ممَّا يجعلُهُم أقلَّ هشاشةً أمامَ محاولاتِ الإقصَاء. يجبُ أن تكونَ البيئةُ المنزليَّةُ مشتلاً للفَضائل، حيثُ يُلقَّنُ الطّفلُ مَعنى الإحترامِ المُتبادلِ والتّعاطُف، ويُدرِكُ أنَّ الإختلافَ هوَ ثراءٌ لا مَدعاةٌ للسُّخرية. هَذا البناءُ القِيَميُّ يمنعُ الطّفلَ منَ التّحوُّلِ إلى مُتنمِّرٍ أو ضحيَّةٍ مُستسلِمة، ويُوفِّرُ لَهُ الأمانَ العاطفيَّ الّذِي يسمحُ لَهُ باللُجوءِ إلَى والِديهِ عندَ تَعرُّضِهِ لأيِّ ضيقٍ أو أذى، فالمَنزلُ الآمِنُ هوَ الدِّرعُ الأوَّل.
لنتفهَّم عُمقَ الجُرح، يجبُ أن نَستحضِرَ قِصصَ المتألِّمين، حيثُ يتجسَّدُ التّنمُّرُ فِي أشكالٍ مؤلمةٍ تستهدِفُ الفُروقاتِ الفرديَّة. لنتأمَّلَ حالَ الطّفلِ “سامر”، الّذِي يَجدُ نفسَهُ مُثقَلاً بعِباراتِ السُّخريةِ الّتِي تستهدِفُ وزنَهُ الزَّائد، وهُنا يَكمُنُ الدَّورُ الأسريُّ فِي تأكيدِ القيمةِ الجوهريَّةِ لِسامر الّتِي تتجاوزُ المظهَر، وتحويلِ رحلةِ العِنايةِ بالصِّحَّةِ إلَى مشروعِ تمكينٍ ذاتيٍّ بمُشاركةِ الأسرَة. أمَّا “ليلى” الّتِي تُعاني مِن تأتأةٍ خجولةٍ فِي الكَلام، وتُصبِحُ لحظاتُ توقُّفِها مادَّةً للسُّخرية، فيجبُ أن يكونَ حِضنُ الأسرةِ لَها هوَ المَلاذَ الآمِن؛ فتعزيزُ ثقتِهَا بقدرتِهَا علَى التّواصلِ والشّراكةِ معَ الأخصائيِّين، يُرسِّخُ لديهَا قناعةً أنَّ قيمةَ كلماتِهَا تكمُنُ فِي المَعنى لا فِي الطَّلاقة.
عندَ وقوعِ التّنمُّر، يتحوَّلُ الدَّورُ الأسريُّ إلَى دَورِ “المنقِذِ والمُستشارِ” عبرَ التّواصلِ اليقِظ، وهوَ ليسَ مجرَّدَ حوارٍ عابِر، بَل هوَ استماعٌ حثيثٌ مُتعاطفٌ ومُراقبةٌ دقيقةٌ لأيِّ انزياحٍ سلوكيٍّ كالانطواءِ أو رفضِ المدرسَة. وعِندمَا يكتشِفُ الأهلُ تعرُّضَ الطّفلِ للإيذَاء، يجبُ تقديمُ الدَّعمِ العاطفيِّ الفوريِّ الّذِي يُرمِّمُ الكَسر، يليهِ التوجُّهُ الفوريُّ إلَى الإدارةِ والمُرشِدِ لتأسيسِ خُطَّةِ تَدخُّلٍ مشتركةٍ وحازِمة. أمَّا إذَا كانَ الطّفلُ هوَ المُتنمِّر، فالتّعامُلُ يكونُ بحزمٍ تربويٍّ هادئٍ يبحثُ عنِ الجذورِ الخفيَّةِ لهَذا العُدوان، وإعادةِ توجيهِ طاقتِهِ نحوَ مساراتٍ إجتماعيَّةٍ إيجابيَّة.
لا يكتملُ المشهدُ العلاجيُّ إلَّا مِن خلالِ تكامُلِ الأدوارِ الإستراتيجيِّ بينَ البيتِ والمدرسَة، حيثُ يَضطَلِعُ المُرشِدُ التّربويُّ كصِمَامِ الأمانِ وحلقةِ الوصلِ المحوريَّة. فالمُرشِدُ يتولَّى دَوراً مُزدوجا: وقائيّاً عبرَ ورشِ عملِ تنميةِ المَهارات، وعلاجيّاً عبرَ تقديمِ المَشورةِ الفرديَّةِ والتّحقيقِ النّزيهِ فِي الوَقائع، وإشراكِ الأسرةِ في خُطَطِ الدَّعمِ لضمانِ إستمراريَّةِ التّوجيهِ الإيجابيِّ بينَ البيئتَين. إنَّ الأسرةَ الدَّاعمةَ الّتِي تُبقي قنواتِ الإتصالِ مفتوحةً معَ المدرسةِ تُشكِّلُ شبكةَ أمانٍ مُحكَمة، حيثُ يُعزِّزُ هَذا التّناغمُ فِي الرّسائلِ والقِيَمِ مِن فاعليَّةِ البرامجِ التّوعويَّةِ والعلاجيَّة.
إنَّ نجاحَ جهودِ مكافحةِ التّنمُّرِ هوَ مشروعٌ مُجتمعيٌّ شاملٌ يهدفُ إلَى تهيئةِ جيلٍ قادرٍ علَى التّفاعلِ الإجتماعيِّ السَّليم. ولضمانِ أن تكونَ هذهِ الحمايةُ مُستدامة، يجبُ أن نرتقيَ بِالحلولِ مِن مجرَّدِ الإستجابةِ إلَى ثقافةٍ راسِخة. يَتطلَّبُ ذلكَ توحيدَ المنهجِ العاطفيِّ الشّاملِ بينَ البيتِ والمدرسَة، وتطويرَ قنواتِ إبلاغٍ آمنةٍ وسرِّيَّةٍ تُتيحُ للطّلَّابِ التّعبيرَ عَن مخاوفِهِم دونَ خوفٍ منَ الإنتِقام. فمتَى تشابكَتِ الأيدِي بينَ الأسرةِ والمدرسَة، أمكنَنَا أن نرفعَ أجيالاً قادرةً علَى العيشِ فِي مودَّة، بعيداً عَن كابوسِ التّنمُّر. ولكِن، مَا هيَ الآليَّاتُ المُستدامةُ الّتِي يمكنُ للأسرةِ والمدرسةِ تطويرُهَا لضمانِ استمرارِ حمايةِ الأجيالِ القادمةِ منَ الظّواهرِ السّلوكيَّةِ المُستجدَّة؟
