الألوانُ الّتي تُشبهُنا

الألوانُ الّتي تُشبهُنا

بقلم:ريم محمد عيد رمضان
تدقيق: هادي محمود نصّار

مُنذُ فَجرِ التَّاريخ، لَم تَكُن الألوانُ مُجرَّدَ ظِلالٍ بَصريَّةٍ تَكسو مُحيطَنا، بَل كَانَت لُغةً صامِتةً تَعكِسُ أعمقَ ما في النَّفسِ البَشريَّة، تَحمِلُ رسَائلَ ورموزاً تَتجاوزُ حُدودَ الكَلمَات. إنَّها طاقةٌ مرئيَّةٌ تَتفاعلُ مع حالتِنا المزاجيَّةِ وتُؤثّرُ في سُلوكِنا وقراراتِنا، لتُصبِحَ مرآةً حقيقيَّةً لتَركيبِنا النّفسيِّ والعاطفيِّ. فالإنسانُ يَنجذِبُ لاشُعوريّاً إلى ألوانٍ معيَّنةٍ يَجدُ فِيها صَدى لكيانِه الدّاخِليّ، فتصبِحُ هذهِ الألوانُ هِي “الألوانُ الَّتي تُشبهُنا”. ولكِن، إلى أيِّ مدَى يُمكنُ اعتِبارُ تَفضيلاتِنا اللَّونيّةَ دَليلاً حاسماً ومَوثوقاً علَى جَوهرِ شَخصيَّاتِنا وصفاتِنا؟

تُشيرُ دراساتُ علمِ نفسِ الألوانِ إلى أنَّ اختيارَ الفَردِ لوناً مُفضّلاً ليسَ مَحضَ صُدفَة، بَل هوَ تَعبيرٌ عِن سماتٍ شخصيَّةٍ وطاقةٍ داخليَّةٍ. فالأشخاصُ الّذينَ يَميلونَ إلى الألوانِ الدَّافئةِ كالأَحمرِ والبُرتقاليِّ قَد يتَّسمونَ بالحيويَّةِ والشَّغَف، بينَما مُحبّو الألوانِ البَاردةِ كالأزرقِ والأخضَرِ غالباً مَا يُفضّلونَ الهُدوءَ والتَّأمُّل. هذا التَّفاعلُ بينَ اللَّونِ والنَّفسِ يَخلقُ روابطَ عاطفيَّةً عمِيقَة. عَلاوةً علَى ذلِك، لا يقتَصرُ تأثيرُ الألوانِ علَى الجَانبِ الشَّخصيّ، بَل يَمتدُّ ليَشملَ التَّفاعلَ الاجتِماعيَّ والثَّقافِيّ. فكلُّ لَونٍ يَحملُ دلَالاتٍ راسِخةً في الوَعيِ الجَماعِيّ، وإن كانَت تَختلفُ باختِلافِ الثَّقافَات، فالأبيَضُ قَد يَرمزُ للنَّقاءِ فِي ثَقافَة، بينَما يَرتبطُ بالحُزنِ فِي أخرَى.

إنَّ التّبايُنَ في دَلالاتِ الألوانِ يُثبِتُ أنَّ “شَخصيَّةَ اللَّونِ” تَتشكّلُ جُزئيّاً عَبرَ التَّراكمِ الثّقافيِّ والإجتِماعِيّ، ممّا يُقلِّلُ مِن فِكرةِ أنَّ لكلِّ لونٍ مَعنَى عالَميٌّ ثابِت. هًذا التّبايُنُ هُو ما يَجعلُنا نَرى الأبيَضَ يَرمزُ للنّقاءِ فِي الغَرب، بَينَما يرتَبطُ بالحِدادِ فِي بعضِ ثَقافاتِ الشَّرقِ الأقصَى. علَى المُستوَى التِّجاريِّ والتَّصميمِيّ، تَستثمِرُ الشَّركاتُ فِي هَذهِ الدَّلالاتِ لتَبنيَ انطِباعاً مُعيَّنا، فتَختارُ العلاماتُ التّجاريَّةُ اللَّونَ الأزرَقَ لتعزِّزَ الثِّقةَ والكَفاءةَ والمِهنيَّةَ، أو الأخضرَ للتَّعبيرِ عِن الاستِدامةِ والنُّموِّ والطَّبيعَة. هَذا الاستِخدامُ المَدروسُ يؤكِّدُ قوّةَ الألوانِ فِي إيصالِ الرَّسائلِ غيرِ اللَّفظيَّة.

ما يميِّزُ العلاقةَ بينَ الإنسانِ والألوانِ هوَ أنَّها ليست علاقةً جامدةً، بل هيَ في حالةِ تغيّرٍ مُستَمرّ. فاللَّونُ المُفضّلُ لَدينا في مَرحلةٍ عُمريّةٍ مُعيّنةٍ قَد يَتبدّلُ فِي مَرحلةٍ أُخرَى، وهَذا التَّغيّرُ يعكِسُ تَطوّراً فِي الشَّخصيّةِ أو تَحوّلاً فِي الأولَويّاتِ العَاطفيّةِ والنَّفسيّة. هَذا التَّحوّلُ يؤكِّدُ أنَّ الألوانَ الّتي “تُشبهُنا” ليسَت ثَابِتة، بَل تَتكيّفُ مَع رِحلةِ الحَياةِ لتُصبحَ سِجلّاً مَرئيّاً لتَجاربِنا وتَحوُّلاتِنا الدَّاخليَّة. إنَّ الأَلوان، فِي جَوهرِها، هِي انعِكاسٌ للتَّوازنِ المُعقّدِ بينَ فِطرتِنا وتَجاربِنا.

كيفَ يُمكنُنا استِغلالُ “لغةِ الألوانِ” بوَعيٍ أكبرَ لتَحقيقِ التَّوازنِ العَاطفيِّ والنَّفسيِّ وتَعزيزِ جُودةِ تفاعُلاتِنا مَع البِيئةِ المُحيطةِ؟