بقلم : ريم محمّد عيد رمضان
تدقيق : فاطمة محمّد صالح الموسويّ
لقَد تجاوزَت مُشاركةُ المرأةِ فِي سوقِ العملِ كونَهَا مجرّدَ ضرورةٍ اقتصاديّةٍ لتُصبحَ تجسيداً للطموحِ الفرديِّ وحقاً فِي تحقيقِ الذَات. فالأمُّ العاملةُ اليومَ تسعَى لإثباتِ كفاءتِهَا المِهنيّةِ والمُساهمةِ فِي بناءِ مجتمعِهَا، جنباً إلَى جنبٍ معَ دورِهَا المِحوريِّ كعمُودٍ فِقريٍّ للأسرةِ وراعيةٍ لأبنائِهَا. هَذا الدورُ المُزدوج، وإنْ كانَ مصدراً للقوةِ والإلهَام، فإنَّهُ يضعُهَا أمامَ تحدٍّ معقّدٍ يتمثّلُ فِي الموازنةِ بينَ مُتطلباتِ العملِ الّتِي تزدادُ تنافُسيّة، وبينَ المسؤولِياتِ الأسريّةِ الّتِي تتطلّبُ حُضوراً عاطفيّاً وزمناً نوعِيا. فهَل يمكنُ للأمِّ أنْ تُوفِّقَ بينَ طموحِهَا المهنيِّ اللّامحدُودِ وحقِّ أسرتِهَا فِي رعايتِهَا وحضورِهَا الكاملِ دونَ أنْ يكونَ ذلكَ علَى حسابِ جودةِ أيٍّ منَ الدّورَين؟
يُعَدُّ الطّموحُ المهنيُّ للأمِّ دافِعاً أساسيّاً لتحقيقِ استِقلالِهَا الماديِّ والشّعورِ بالفاعليّةِ الشّخصِيّة. العملُ يمنحُهَا إطاراً للتطوّرِ المُستمرِّ والتّعلمِ واكتسابِ الخُبرات، ممَّا يُعزِّزُ ثقتَهَا بنفسِهَا ويُوسِّعُ مِن مداركِهَا. هَذا الإستقلالُ ليسَ مجرّدَ ترَف، بَل هوَ ركيزةٌ للقوّةِ داخلَ الأسرَة، إذْ يسمحُ لهَا بالمُساهمةِ الفعّالةِ فِي القراراتِ الماليّةِ والأسرِيّة. كمَا أنَّ عملَهَا يُرسِّخُ لَدى أبنائِهَا قيمةَ الجهدِ وروحَ المَسؤولية، ويُقدِّمُ لهُم نموذجاً عمليّاً للمرأةِ المنتجةِ والنّاجحةِ فِي مختلفِ جوانبِ الحَياة.
علَى الجانبِ الآخَر، تظلُّ المَسؤولياتُ الأسريّةُ هِي الأساسَ الّذِي لا يُمكنُ التّنازلُ عَنه. فالأمُّ هيَ المَسؤولُ الأوّلُ عنِ التّنشئةِ السّليمةِ للأطفَال، وتَوفيرِ البيئةِ العاطفيّةِ الآمِنة، وتدبيرِ شُؤونِ المَنزل. إنَّ قضاءَ ساعاتٍ طَويلةٍ خارجَ البيتِ يخلِقُ فَجوةً زمنيّةً وعاطِفيّة، مِمّا يضعُ الأمَّ تحتَ ضغطٍ نفسيٍّ مستمرٍّ وشعورٍ مُتزايدٍ بِالذنبِ أوْ التّقصِير. إنَّهَا تجِدُ نفسَهَا فِي سِباقٍ دائمٍ معَ الزّمن، تحاولُ إنجازَ مهامِّ اليومِ فِي وقتٍ مَحدود، مِمّا يُؤدِّي إلَى الإرهاقِ الجَسديِّ والنّفسيِّ وصُعوبةٍ فِي تَخصيصِ وقتٍ نوعيٍّ لِيزوجِهَا وأبنائِهَا.
لتَحقيقِ هَذا التّوازُن، لا يكفِي الإعتمادُ علَى قدرةِ الأمِّ الخارقةِ وحدَهَا، بَل يتطلّبُ الأمرَ تفعيلَ مَبدأ الشّراكةِ الحَقيقيّة. يجِب أن يتحمّلَ الزوجُ جُزءاً فعّالاً منَ المَسؤولياتِ المنزليّةِ والرّعاية، لتُصبحَ الأسرةُ فريقاً يعملُ بتَعاون. كمَا أنَّ الدّعمَ المُجتمعيَّ والمؤسَسيَّ يلعبُ دوراً حاسِما، مِن خلالِ توفيرِ خَياراتِ عملٍ مرِنة، كالسّماحِ بالعملِ عَن بُعدٍ أوْ تنظيمِ ساعاتِ العَمل، بالإضافةِ إلَى تطويرِ خدماتِ رعايةِ الأطفالِ عاليةِ الجودةِ بأسعارٍ مُناسِبة. هذهِ التّدابيرُ تُخفِّفُ مِن عبءِ ازدواجيّةِ الأدوارِ وتُساعِدُ الأمَّ علَى الإنجازِ بِكفاءةٍ أكبرَ دونَ إجهَاد.
فِي الخِتام، فإنَّ رحلةَ الأمِّ العاملةِ هيَ رحلةُ تحدٍّ وإثباتٍ لِلذات، حيثُ تُبرهِنُ علَى إمكانيةِ الجمعِ بينَ النّجاحِ المِهنيِّ والعطاءِ الأسريِّ العَميق. إنَّ نجاحَهَا فِي تحقيقِ هَذا التّوازنِ يعودُ بالنّفعِ علَى المُجتمعِ ككُلّ، حيثُ ينشأُ جيلٌ أكثرُ وعياً بأهميةِ العملِ والمُساواة. إنَّهَا تستحقُّ بيئةً داعِمةً تُقدِّرُ طموحَهَا ولا تُحمِّلُهَا عبءَ المُوازنةِ بمفردِهَا. فمَا هيَ التّغييراتُ الجذريةُ الّتِي يجبُ أن تطرأَ علَى ثقافةِ العملِ والمُجتمعِ لضَمانِ حقِّ الأمِّ العاملةِ فِي تحقيقِ ذاتِهَا دونَ الشّعورِ المستمرِّ بتأنيبِ الضّميرِ تجاهَ أسرتِهَا؟
