الإعلام والوَعي الجَماعِيّ

الإعلام والوَعي الجَماعِيّ

مقال بقلم ريم محمد عيد رمضان
تدقيق هادي محمود نصّار

في عصرِنا الحالِيّ، أصبحَ الإعلامُ قوّةً لا يُستهانُ بِها، إذْ يتغَلغَلُ في جميعِ جوانِبِ حياتِنا ويشكِّلُ تصوُّراتِنا وآراءنا وسلوكيّاتِنا. لم يَعُد الإعلامُ مُجرَّدَ ناقِلٍ للأخبارِ والمَعلومات، بَل أصبحَ آداةً قويّةً لتَشكيلِ الوعِي الجَماعِيّ، وتوجيهِ الرّأيِ العام، والتأثِيرِ على مسارِ الأحداث، ورغمَ الفوائِدِ العديدَةِ الّتي يوَفِّرُها، إلّا أنَّ تأثيرَهُ لا يخلوْ مِن التّحدّياتِ والمَخاطِر، مِثلُ نشرِ الأخبارِ الزّائِفة، والتّحيُّزِ الإعلامِيّ، والتّلاعُبِ بالمَعلومات.
فإلى أيّ مَدى يُمكِنُ اعتبارُ الإعلامٍ آداةً مُحايِدةً لنقلِ الحَقائِق؟ وما مَدى تأثيرِهِ في تَشكيلِ الوَعي الجماعِيّ؟ وهَل يمكِنُ الحدّ مِن مخاطِرهِ مَع الحفاظِ على دورِهِ كوسيلةٍ لنشرِ المعرِفةِ والتّواصُل؟

يؤثِّرُ الإعلامُ على الوَعي الجماعِيّ مِن خِلالِ عِدّةِ آليّات، أبرزُها تحديدُ الأجِندة، حيثُ يلعَبُ دوراً حاسِمًا فِي تحديدِ القَضايا الّتي تَحظى باهتِمامِ الجُمهور، فمِن خلالِ التّركيزِ على موضوعاتٍ مُعيّنةٍ وتجاهُلِ أُخرى، يُمكِنُهُ التأثيرُ على أولويّاتِ الأفرادِ وتشكيلِ تصوراتِهِم للعالَم. على سبيلِ المِثال، قَد يؤدّي التّركيزِ المُفرِطِ على الجَرائِمِ والعُنفِ في وسائِلِ الإعلامِ إلى خَلقٍ شعورٍ بالخوفِ والقلقِ لدى الجُمهور، حتّى لَو لَم تكُن هذهِ الجرائِمُ تعكِسُ الواقِعَ بدقّة.

أما تشكيلُ الإطارات، فيعتَمِدُ على استخدامِ الإعلامِ للُّغةِ والصُّورِ والقصَصِ لصياغةِ فَهمِنا للأحداثِ والقَضايا، و يُمكنُ للإعلامِ أن يُقدِّمَ قضيّةَ الهِجرةِ على أنّها تهديدٌ للأمنِ القومِيّ، أو على العَكس، كقضيّةٍ إنسانيّةٍ تَستدعِي التّعاطُفَ والمُساعَدة، مِمّا يؤثِّرُ بشكلٍ كبيرٍ على كيفيّةِ استجابةِ الجمهورِ لهذهِ القَضايا.

يؤثِّرُ الإعلامُ أيضاً مِن خلالِ نشرِ المَعلوماتِ، إذ يتحكَّمُ في إمكانيّةِ الوصولِ إليها، وبالتّالي في طريقةِ تشكيلِ تصوّراتِنا للعالَم.
في عصرِ الإنترنِت، أصبَحَ الوصولُ إلى كمِّياتٍ هائِلةٍ مِن المعلوماتِ أمراً يسيراً، إلّا أنّ هذهِ المَعلوماتُ ليسَت دائماً دقيقةً أو موثوقَة، فانتشارُ الأخبارِ الزائِفةِ والمعلوماتِ المُضلِّلةِ يُمكِنُ أن يؤدّي إلى تشويهِ الوَعيِ الجماعيِّ وتأجيجِ الصّراعاتِ الإجتماعيّة.
على سبيلِ المِثال، خلالَ جائِحةِ كوفيد-19، انتشرتِ العديدُ منَ الأخبارِ المضلِّلةِ حولَ الفيروس واللُّقاحات، مِمّا تسبَّبَ في تضليلِ الجُمهورِ وتأخيرِ جهودِ مكافحةِ الوباء.

يستخدمُ الإعلامْ التأثيرَ العاطفيَّ لإيصالِ رسائلِه، فالصّورُ المؤثرةُ والقصصُ العاطفيّةُ تجعلُ المُشاهدينَ أكثرَ عُرضةً لتقبُّل الرّسائلِ الإعلاميّة، حتّى وإن كانَت غيرَ منطقيّةٍ أو غيرَ دقيقَة، على سبيلِ المِثال، قد تستغِلُّ الحملاتُ الإعلانيَّةُ صوراً لأطفالٍ جائعينَ لدفعِ الأفرادِ إلى التّبرُّعِ للمؤسساتِ الخيريّة.

أما التّكرار، فهُو من أكثرِ الآلياتِ فاعليّة في ترسيخِ الرّسائلِ الإعلاميّةِ في أذهانِ النّاس، فكلّما زادَ التّعرُّضُ لمعلومَةٍ معيّنة، زادت احتماليّةُ تصديقِها، حتّى وإنْ كانَت غيرَ صحيحةٍ، على سبيلِ المِثال، قد يؤدّي التّكرار المُستمرّ لإعلاناتِ ترويجِ منتَجٍ مُعيّن إلى زيادةِ مبيعاتِه بغضِّ النّظرِ عن جودتِه الفعليّة.

يؤثّرُ الإعلامُ على مُختَلفِ جوانِب الوعِي الجَماعيّ، ومِنها الوعيُ السياسيّ، حيثُ يساهمُ في تشكيلِ الآراءِ السياسيّةِ والسلوكِ الانتخابيّ، فالأخبارُ والتحليلاتُ السياسيّةُ تُشكِّلُ تصوراتِ الجمهورِ عَن القادةِ السياسيينَ والأحزاب، وتؤثّرُ على قراراتِهم الانتخابيّة. كذلِك، يؤثّرُ الإعلامُ على الوعيِ الاجتماعيّ، مِن خلالِ دورهِ في تشكيلِ الهويّةِ الاجتماعيّة والقِيمِ الثّقافيّة، إذ تلعبُ الأفلامُ والمُسلسلاتُ التّلفزيونيّة دوراً مهماً في رسمِ ملامحِ الأدوارِ الاجتماعيّة والقِيم الأخلاقِيةِ والعلاقاتِ الإنسانيّة.

أمّا فيما يتعلّقُ بـ الوعيِ الاقتصاديّ، فالإعلامُ يوجّه أنماطَ الاستهلاكِ والقراراتِ الماليّة، حيث تُشجّعُ الإعلاناتُ التّجاريّةُ الأفرادَ على شراءِ مُنتجاتٍ معيّنة، كما يمكنُ للأخبارِ الاقتصاديّة أن تؤثّرِ على القراراتِ الاستثماريّة. كذلك، يؤثرُ الإعلامُ على الوعيِ الصحيّ، إذ تلعبُ الأخبارُ الصّحية دوراً في توجيهِ السّلوكيّاتِ الصّحيّة واتخاذِ القراراتِ الطبيّة، كاتباعِ نظامٍ غذائيٍّ صحيّ أو ممارسةَ الرياضةِ أو إجراءِ الفحوصاتِ الطبيّة الدوريّة.

رُغم الفوائدِ العديدةِ للإعلام، إلّا أنّ هناكَ تحدياتٍ ومخاطرَ تواجهُ الوعيَ الجماعيّ، من أبرزها الأخبارُ الزائفةُ والمعلوماتِ المضلِّلة، التي تمثِّلُ تهديداً خطيراً، حيثُ يمكنُ أن تؤدي إلى تشويهِ الحقائق، وتأجيجِ الصراعاتِ الاجتماعيّة، وتقويضِ الثّقة في المؤسسات، كذلِك، يُعد التحيّزُ الإعلاميّ مِن المُشكلاتِ الخطيرة، إذ قَد يؤدّي تبنّي وسائلِ الإعلامِ لوجهةِ نظرٍ معيّنة وإقصاءِ وجهاتِ النّظر الأخرى إلى خلقِ صورةٍ مشوِّهةٍ للواقِع، ما يؤدّي إلى انقسامِ المُجتمع.

كما أنّ وسائِل التواصُل الاجتماعيّ أصبحَت أداةً قويةً لنشرِ المعلوماتِ وتشكيلِ الوعيِ الجماعيّ، لكنها قد تكونُ أيضاً ساحةً خصبةً لانتشارِ الأخبار الزائفةِ والمعلوماتِ المغلوطَة. إضافَة إلى ذلِك، فإنّ الرّقابةِ والتّلاعبِ يمثِّلانِ خطراً على حريّة التّعبيرِ وتشويهِ الوعيِ الجماعيّ، حيثُ تستخدمُ بعضُ الحكوماتِ والشركاتِ المسيطرةِ على الإعلامِ وسائلِ الإعلامِ لنشرِ الدعايةِ والتأثيرِ على الرأيِ العام.

للحدِّ من هذهِ التّحديات، يجبُ اتخاذُ مجموعةٍ من الحلول، أبرزُها تعزيزُ الوعيِ الإعلاميّ مِن خِلالِ تعليمِ الأفرادِ كيفيةَ تحليلِ المعلوماتِ الإعلاميّة، والتميّيزِ بينَ الأخبارِ الحقيقيّة والزائِفة. كما أن دعمَ الإعلامِ المستقلِّ يُعدّ ضرورةً لضمانِ تقديمِ معلوماتٍ دقيقةٍ وموضوعيّة، إضافةً إلى ذلك، يجبُ تنظيمُ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ من خلالِ وضعِ قوانينٍ ولوائحٍ تحدُّ من انتشارِ الأخبارِ الزائفةِ والمعلوماتِ المضلِّلة.

كذلك، من الضروريِّ تشجيعُ الحوارِ والتفكيرِ النقديّ، حيثُ يسهمُ تعزيزُ النقاشاتِ الهادفةِ حولَ القضايا الإعلاميَّةِ في تطويرِ وعيٍ نقديٍّ لدى الجُمهور، ممّا يساعدهمُ على التعاملِ بذكاءٍ مع المعلوماتِ الّتي يتعرَضونَ لها.

في الخِتام، يُعَدُّ الإعلامُ قوةً هائلةً يمكنُ استخدامُها للخيرِ أو للشّر، لذا، منَ الضّروريِّ أن يكونَ الأفرادُ واعينَ بتأثيرهِ على حياتِهم، وأن يسعوا إلى استخدامِه بشكلٍ مسؤولٍ وأخلاقيّ مِن خلالِ تعزيزِ الوعي الإعلاميّ، ودعمِ الإعلامِ المُستقلّ، وتنظيمِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ، يمكنُ بناءُ مجتمعٍ أكثرَ وعياً وتنويراً.