بحثَ الإنسانُ على مرِّ التّاريخِ على اختراعٍ يمكنُهُ أن يُحاكي العقلَ البشريَّ في نمَطِ تفكيرِهِ، فقد حاولَ كلٌّ من الفنّانينَ والكُتّابِ وصُنّاعِ الأفلامِ ومطوِّري الألعابِ على حدِّ سواءٍ إيجادَ تفسيرٍ منطقيٍّ لمفهومِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ. فعلى سبيلِ المثالِ، في عام 1872 تحدَّثَ “صموئيل بتلر” في روايَتِهِ “إيرهون” عن الآلاتِ والدَّورِ الكبيرِ الذي ستَلعبُهُ في تطويرِ البشريَّةِ ونقلِ العالمِ الى التَّطوُّرِ والإزدهارِ.
وعلى مرِّ الزَّمنِ، كان الذَّكاءُ الاصطناعيُّ حاضراً فقط في الخيالِ العلميِّ. أمّا اليوم، فقد أصبحَ حقيقةً، إذ خرجَ من مُختبراتِ البحوثِ ومن صفحاتِ رواياتِ الخيالِ العلميِّ، و شقَّ طريقَهُ بسرعَةٍ إلى حياتنا اليوميَّةِ ليُصبحَ جزءاً لا يتجزَّء منها، إبتداءً من الهواتفِ الذَّكيَّةِ و ألعابِ الفيديو وصولًا إلى مساعدَتنا في التَّنقُّلِ في المدنِ وتجنُّبِ زحمةِ المرورِ مثلاً…
عمليًّا، يُعرَّفُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ بأنَّهُ الذَّكاءُ الذي تبديهِ الآلاتُ و البرامجُ بشكلٍ يُحاكي القُدراتِ الذَّهنيَّةِ البشريَّةِ، لتكونَ مؤهَّلةً لأداءِ المهامِ التي يقومُ بها البشرُ. و تبعًا لما يتمتَّعُ بهِ من قُدراتٍ، يُصنّفُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ إلى ثلاثةِ فئاتٍ؛ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ الضَّيق أوَّلًا، و هو الأكثرُ شيوعًا في وقتِنا الحاضرِ و يُقصدُ به ذلكَ الذي يقومُ بمهامٍ مُحدَّدَةٍ استنادًا للمعلوماتِ المُقدَّمةِ لهُ، كالسيّاراتِ ذاتيَّةِ القيادةِ مثلًا. ثانيًا، يأتي الذَّكاءُ الاصطناعيُّ العامُّ الذي يُركِّزُ على جعلِ الآلةِ قادرةً على التَّفكيرِ و التَّخطيطِ من تلقاءِ نفسِها، إنَّما لا وجودَ لأمثلةٍ عمليَّةٍ لهذا النَّوعِ حتى اليوم، ما يوجَدُ هو مجرَّدُ دراساتٍ بحثيَّةٍ تحتاجُ الكثيرَ من الجُهدِ لتُصبحَ واقعاً. أخيراً يأتي الذَّكاءُ الاصطناعيُّ الفائقُ الذي يتخطّى مستوى البشر و يَتَطَلَّبُ توفُّرَ العديدِ من الخصائصِ كالقُدرةِ على التعلُّمِ و التَّواصلِ التِّلقائيِّ و إصدارِ الأحكامِ، لكنَّهُ ليسَ إلّا مفهومٌ افتراضيٌّ حتى الآن.
في الواقعِ، قامَ الجدلُ حولَ الثَّورةِ التي سيُحدِثُها الذَّكاءُ الاصطناعيُّ و قُدرةُ البشرِ على استيعابِها منذُ زمنٍ، و انقسمَت حولَهُ آراءُ الخُبراءِ بينَ من يُسلِّطُ الضَّوءَ على الفوائدِ المُحتملَةِ للذَّكاءِ الاصطناعيِّ على البشريَّةِ وجوانبِهِ الإنسانيَّةِ المشرقَةِ تارةً، و من يُسلِّطُ الضَّوءَ على الجوانبِ السَّلبيَّةِ المتوقَّعةِ منهُ، و يتِمُّ تصويرُهُ على أنَّهُ العدوُّ الشَّرسُ للبشريَّةِ الذي يعتزمُ إغتصابَ الحضارةِ والسَّيطرةِ عليها تارةً أخرى.
يرى أصحابُ وجهةِ النَّظرِ الأولى أنّ الذَّكاءَ الاصطناعيَّ يزيدُ من كفاءَةِ الأعمالِ وسُرعةِ تنفيذِها ويزيدُ من قيمَتِها ويُساهِمُ في تَطوُّرِ الأعمالِ باستمرارٍ، ولا يَغفلونَ عن التَّصويبِ على التَّطوُّرِ الهائلِ الذي طرأ في مجالِ الرِّعايَةِ الصِّحيّةِ و المستمرِّ على نحوٍ مُتسارعٍ بفضلِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ ، و قد أُجرِيَتْ في أواخرِ عام 2017 في العاصمةِ الفرنسيَّةِ، أوَّلُ عمليَّةٍ جراحيَّةٍ لزراعةِ مفصلٍ صناعيٍّ للكتفِ باستخدامِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ حيثُ تكلَّلَت بالنَّجاح. فضلاً عن أهميَّتِهِ في حياتِنا اليوميَّةِ، فقد أحدَثَ استخدامُ تطبيقاتِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ ثورةً كبيرةً في مجالِ صناعَةِ السيّاراتِ حيثُ يستخدمُ برنامجُ القيادةِ الذّاتيَّةِ من جوجل الذي يستخدمُ تقنيّاتِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ لتقليلِ نسبةِ الحوادِثِ وتخفيفِ الازدحامِ المروريِّ على سبيلِ المثالِ.
بالمقابلِ، يخشى جِدِّيًا أصحابُ وجهةِ النَّظرِ المُعاكسةِ أن تُخرِجَ قدراتِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ عن السَّيطرةِ و تتفوَّقِ على القدراتِ البشرِيَّةِ. إذ يرى البعضُ أنّ الآلةَ تجاوزَتْ قدراتنا المعرفيَّة في معظمِ الميادينِ، ممّا يجعلُهُم يَخشونَ مخاطِرَها. و تتمثَّلُ هذه المخاطِر في ثلاثةِ أنواعٍ: نَدرَةُ فرصِ العملِ باعتبارِ أنّ الآلةَ ستُعَوِّضُ الإنسانَ عن تأديةِ العديدِ من المهامِ، والانعكاساتِ على استقلاليَّةِ الفردِ وخاصّةً على حُريَّتِهِ وأمنِهِ، و منهم من يصلُ إلى التَّحذيرِ من تجاوزِ البشريَّةِ التي قد تزولُ لتحُلَّ محلَّها آلاتٌ تفوقُها ذكاءًا. كعالِمِ الفيزياءِ الشَّهيرِ “ستيفن هوكينغ” الذي حذَّرَ قبلَ وفاتِهِ من أنّ الذَّكاءَ الاصطناعيِّ يمكنُ أن يكونَ أسوأ ما يحدُثُ للبَشريَّةِ من أيِّ وقتٍ مضى، مُنطَلقا من نظريَّةِ أنَّ الذَّكاءَ الاصطناعيِّ يمكنُ أن “يطوِّرَ ارادَةً خاصَّةً بهِ و هذه الارادةُ يمكنُ أن تتعارضَ مع مصالِحِنا” بحسبِ قولِهِ.
لا يمكنُ إنكارُ التقدُّمِ الهائلِ الذي وصلَ إليهِ مجالُ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ، وعلى الرُّغمِ من التطوُّرِ الكبيرِ و المتزايدِ، فإنَّهُ لا يوجدُ إلى اليوم أيُّ برامِج أو أنظمة تُماثِل عقلَ الإنسانِ و مرونَتَهُ، ولكن لا أحدَ يعلمُ إن كانَ سيأتي يومٌ تصلُ فيهِ اختراعاتُ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ لمستوى الإنسانِ او تتجاوزُهُ. فهل سنشهَدُ على هذا الصِّراع يومًا ما؟ و لِمَن ستكونُ الغالبيَّةُ ؟