بقلم: علي رضوان سعيد
تدقيق : فاطمة محمّد صالح الموسويّ
عَلى مَسرحِ التاريخِ تتَعاقبُ المَشاهدُ كأنَّهَا كُتبَت سَلفا، أحيَاناً يبدُو المَشهدُ قَدرا، وأحيَاناً أخرَى نشعُرُ أنَّ كلَّ شيءٍ يُمكنُ أن ينقَلب. أو بِمعنى آخرَ بِإمكانِنَا أن نُعيدَ كِتابةَ النَّصّ. هُنا يبرزُ السُّؤال، هَل نحنُ أسرَى التاريخِ فَلا نملِكُ إلّا أن نسيرَ فِيه؟ أم أنَّ الشُّعوبَ قَادرةٌ على تَصويبِ مَسارِه؟
تحدّثَ “هيغِل”، وهُو مِن أصحابِ النّظريّةِ المِثاليّةِ فِي الفلسَفة، عَن التاريخِ عَلى أنّهُ عقلٌ مُنتظمٌ يَسيرُ بخطٍّ مُحدّد. ثمَّ جاءَ “كارل ماركس” لِيقولَ إنَّ التاريخَ مُرتبطٌ بِالصّراعاتِ الطبقيّةِ المحكُومةِ بِالاقتصاد. وفِي كِلتا الحالَتَين، لا مجالَ واسِعاً للمُفاجَآت. إذَا أسقَطنَا ذلِكَ عَلى لُبنان، يمكنُ القولُ إنَّ الطّائفيّةَ هُنا تُعامَلُ كَحتميّةٍ مُطلقةٍ لِتفسيرِ أو تَبريرِ كلِّ شَيء، مِنَ الحربِ الأهليّةِ إلى اتفاقِ الطّائفِ وصُولاً إلى الإنقِسامِ السّياسيِّ الحاليّ. وكأنَّ البَلدَ محكُومٌ بقدرٍ تارِيخيٍّ لا مَفرَّ مِنه.
عَلى الضّفّةِ الأُخرى، يقدِّمُ أصحَابُ النّظريّةِ الوجُوديّةِ رؤيةً مُختلِفة. “سارتر” و”كامو” مثلاً شَدّدَا عَلى أنَّ الإنسانَ مَحكومٌ علَيهِ بِالحُرّيّة، وبِالتّالِي فإنَّ لَحظةَ الرّفضِ قَد تكسِّرُ كلَّ مَا يبدُو مكتُوباً أو مُحتَّما. فِي هَذا السِّياق، تحمِلُ التّجربةُ اللُّبنانيّةُ نفسَهَا إشَاراتٍ عَلى ذلِك. ولعلَّ انتفَاضةَ السّابِع عشرَ مِن تِشرينَ مِثالاً واضِحاً في لَحظةٍ لَم تكُن مُتوقّعةً أبداً قلبَت المَشهدَ وأثبتَت أنَّ الإرادةَ مَوجودةٌ بِمعزلٍ عمَّا حدثَ بعدَ ذلِك.
الواقعُ كمَا يَظهرُ فِي لُبنانَ هُو خليطٌ منَ الإثنَين. والحَقيقةُ كمَا هُو الحالُ غَالباً تقعُ بينَ الحتميّةِ والإرَادة. فَالتَّركيبةُ الطّائفيّةُ والسّياسيّةُ للُبنانَ ترسِمُ الخُطوطَ العَريضة، ولكِن هَذا لا ينفِي أنَّ مَساحةَ الحرّيّةِ موجُودة، حتِّى ولَو كانَ الهامشُ ضَيّقا. باختِصار، تَستخدمُ السّلطةُ مَبدأَ الحَتميّةِ لِتبريرِ بقاءِ الوضعِ كمَا هُو مُتسلّحةً بمقُولةِ «هذَا قدرُ لُبنان». بِالمُقابل، يَرفعُ النَّاسُ دائماً شِعارَ التَّغييرِ فِي مُحاولةٍ لِفتحِ ثغرةٍ فِي الجِدار.
هُنا يبقَى السّؤالُ الّذِي يُطرحُ دَائما، هَل سيظلُّ لُبنان، عَلى قاعدةِ «التاريخُ يعيدُ نفسَه»، يكرّرُ إنتاجَ أزماتِهِ نفسِهَا كلَّ عقدٍ منَ الزَّمن؟ أم أنَّ شعبَهُ فِي النِّهايةِ قادرٌ على كِتابةِ سطرٍ جديدٍ يُخرجُ البلدَ مِن هذهِ الحلقةِ المُفرغة؟