مقال بقلم د. ملاك الطفيلي
خرق أخلاقيّ عميق لميثاق الانتماء والولاء، ونكران للجميل، تجاوز حدود الاختلاف والأعراف… خائن الوطن الذي جفّت في قلبه ينابيع الوفاء، فاستبدل دفء الانتماء بزمهرير الخيانة، وتخلّى عن حضن أرضٍ احتضنته غضًّا طريًّا، وعن سماء ظلّلته أمينة سخيّة، وعن ذكرياتٍ وفيّة، نشأت بين جدرانها أحلامه الأولى، يمضي متخفّيًا بين وجوه الأوفياء، حاملًا في صدره رمادًا لوطنٍ، أحرقه الطمع والجهل، والتهمه الجشع، خيانته ندبة في روح الوطن، وشرخ لا تلتئمه الأعذار ولا تغسله السّنون، ارتدى قناع الولاء، وهمس للأعداء بخطط الدمار، وحمل خنجرًا في نواياه؛ لينظّم جريمةً جماعيّةً نكراء، تمسّ روح ونبض الوطن، وتفكّك نسيجه الاجتماعيّ المتماسك. هل الخيانة هزيمة للروح أم ضياع للهويّة؟ وكيف يهرب الخائن من لعنة الذاكرة؟
الوطن تبر الحياة، وهويّة تسكن الملامح، ودفء يتسلّل إلى القلب، في خصمه تنمو أرواحنا، وتتغذّى من حنانه، وتشتدّ جذورها في عمق تاريخه، لكن ما أشدّ ألمه حين يُطعن في خاصرته لا بسيوف الأعداء، بل بخناجر أبنائه الّذين خانوه بدمٍ باردٍ، وجرحوا القلب الذي ربّاهم، وخنقوا النّبض الذي يمنحهم الحياة، حينها لا تنزف الأرض فقط؛ بل تنزف الكرامة والوفاء. والخيانة ليست حدثًا عابرًا يُطوى في سجل التّاريخ، بل وصمة عارٍ تتجاوز حدود الزمان، وتطارد صاحبها أمام كلّ مرآةٍ، وتلاحقه في كلّ زاويةٍ من تراب أرضٍ نكر فيها جذوره؛ بل خذل المبادئ وباع ضميره، هاربًا من المسؤؤليّة الملقاة، مخلّفًا وراءه وطنًا ينزف جراح الخيانة، متمرّدًا على الهويّة، متأبّطًا خيبته، مثقلًا بعاره، متنكّرًا لجذوره الأولى، متجرّدًا من الأخلاق، لا تُقيم له الحجج وزنًا، ولا تُنقذه الأعذار من لعنته، ولا تحتضنه ذاكرة الأوفياء.
وقد يسوّق البعض الذرائع لتبرير الخيانة، كتقاطع المصالح أو شدّة الضّغوط، أو اختلاف في الرؤية؛ ليصبح فريسةً سهلةً لمن يلوّح له بالوهم، وفي بعض النّفوس المريضة تكمن رغبةً في الانتقام أو بثّ الفوضى، متناسيًا أنّ النّار التي تُشعلها الخيانة، تلتهم الجميع، وأوّلهم الخائن نفسه، ولكن كلّ هذه الأعذار تتهاوى أمام قداسة الوطن الذي يسكن القلب قبل العقل، ويثبت في الشّدائد قبل الرخاء؛ لأنّ بالوفاء تُبنى الأوطان وتُصان، وبصدق الانتماء ينهض التّاريخ من كبوته، فهي كثمرةٍ مُرّة لشجرةٍ جذورها ضعف، وجذعها طمع، وأغصانها ضياع.
ختامًا، تبقى لنا دعوة صامتة لإعادة التّفكير في مفاهيم الانتماء والولاء، وفهم الأسباب التي تُفضي إلى هذا السّقوط الأخلاقيّ، ومعالجة الفراغات التي قد تترك الفرد عرضةً للتيه والانحراف. لذا، لا بدّ من بناء وعي وطنيّ راسخ، وتربيةٍ تنبض بحبّ الأرض، وقوانين تحمي كرامة الوطن والمواطن؛ لأجل مجتمعٍ راقٍ لا يخلف في العهد، ولا يعرف للخيانة درب. ولتكن أقلامنا نور الوعي، وضوءًا يبدّد عتمة الزيف، ولتكن أفعالنا بذورًا للعدل، وقلوبنا دروعًا للحقّ في وجه كلّ خيانة، ولتبق العزّة خفّاقةً ما دامت الأرض تحمي أحلام الوطن. ويبقى السّؤال: كيف يجرؤ شارب النّبع من أن يسمّمه؟ وهل يستطيع الوطن أن يُعيد بناء ذاته من رماد الخذلان؟