العُزوفُ عن القِراءة: كتبٌ حبيسةُ الرفوفِ وقرّاءٌ أسرى الشّاشات .

العُزوفُ عن القِراءة: كتبٌ حبيسةُ الرفوفِ وقرّاءٌ أسرى الشّاشات .

مقال بقلم علي رضوان سعيد
تدقيق فاطمة محمد صالح الموسوي

لم تكنِ القراءةُ يوماً مُجرّدَ وسيلةٍ لِلترفيه، بلْ هِي نافذةٌ يُطِلُّ مِنها الإنسانُ على المعرفَةِ والثّقافة، وهي الجِسرُ الّذي يربِطهُ بماضيهِ وحاضرهِ ومستقبَلِه. تتلاشى هذهِ العادةُ العريقةُ شيئاً فشيئاً في المجتمعِ اللّبنانيّ، حيثُ باتتِ الكتبُ رفاقًا مَنسيينَ في زَوايا المَكتبات، وحلّتِ الشّاشاتُ مكانَ الصّفحات، فكيفَ وصلنَا إلى هذا الواقِع؟ وما هِي التداعِياتُ الخطيرةُ لهذا العُزوف؟

لقدْ أفرَزتِ التّكنولوجِيا الحديثةُ عالماً يسُودهُ التّشتُّت، وتحتَ سَطوةِ العصرِ الرّقميّ، باتتِ المعلوماتُ السّريعةُ والمُحتوى المرئيُّ والمسموعُ يَستهلكانِ وقتَ الأفرَاد، فتراجعَتِ الرّغبةُ فِي القِراءةِ العَميقة، وأصبحَ تصفُّحُ الأخبارِ المختصرةِ على مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ يُغني الكَثيرينَ عنِ الغَوصِ فِي صَفحاتِ الكُتبِ والمَقالاتِ المُطوّلة.

إلى جَانبِ ذَلك، وفي لُبنانَ تَحديداً، شكّلَتِ الأزمةُ الاقتصاديةُ عامِلاً أساسِياً في هَذا التَّراجعِ خلالَ السّنواتِ الأخِيرة، ففي ظلِّ الإرتفاعِ الجنونيِّ لأسعارِ الكُتب، لمْ يعُدْ شِراؤها أولويَّة، وتحوَّلَت إلى رفاهيّةٍ نادرةٍ بعدَ أنْ كانَت كنزاً في مُتناولِ الجَميع، أمّا المناهجُ التَّعليميّة، فهي لا تَزالُ تعتمدُ على الحفظِ والتَّلقينِ بَدلاً مِنْ تحفيزِ الطّلابِ على البحثِ والتَّفكير، ممَّا يَجعلُ القِراءةَ تَبدو وكأنَّها عبءٌ ثقيلٌ بدلاً مِن أنْ تكونَ متعةً فِكريَّة.

في التّداعيات، لا يقتصِرُ تأثيرُ العُزوفِ عنِ القراءةِ على الأفرادِ فحسْب، بلْ يتعدّاهُ ليهدِدَ المجتمعَ ككُلّ. فحينَ يَبتعد الناسُ عنِ الكُتب، تتراجَعُ قدرتَهُم على التَّفكيرِ والتّحليلِ العَميق، ويصبحونَ أكثرَ عُرضةً لتصديقِ الأخبارِ الزائفةِ والمعلوماتِ المضلِّلةِ الّتي تنهشُ مجتمعاتِنا، هذا عدا عِن انعدامِ القُدرةِ على التّعبيرِ الواضحِ والمُقنع، والذي ينعكسُ انحداراً في مُستوى الحوارِ العامِ بينَ أطيافِ المُجتمع، وما هي المشاحناتُ المقيتةُ التي تشهدُها مواقعُ التَّواصلِ الاجتماعيِّ إلاّ دليلٌ على هذا الإنحِدار.

ولعلَّ ما هُو أخطر مِن ذلك، أنَّ غيابَ القراءةِ يقتلُ الفُضول، ويجعلُ الأفرادَ أسرى الجَهل، غيرَ قادرينَ على البحثِ عن حلولٍ لمشاكِلِهم، والسّؤالُ الذي يطرحُ نفسَهُ هُنا: كيفَ لمُجتمعٍ أنْ ينهضَ إنْ لمْ يَكنْ مُسلحاً بِالمعرِفة؟

في سبيلِ إحياءِ شغفِ القراءةِ مِن جديد، لا يزالُ الأملُ قائماً، فالقراءةُ ليستْ عادةً تَختفي، ومنِ المُمكنِ إحياؤها عبرَ تضافرِ الجُهود، على صعيدِ الدولةِ والمُجتمع، تأتِي أهميةُ دعمِ المكتباتِ العامةِ وإطلاقِ مبادراتٍ ثقافيةٍ توفِّر الكُتبَ بِأسعارٍ رمزيَّةٍ أو بالمَجّان، وهُنا تقعُ المسؤوليّةُ أولاً على وزارةِ الثّقافة، بالمُوازاة، لا يقلُّ دورُ وزارةِ التّربيةِ والمدارسِ أهميّة، إذ إن تجاوزَ أسلوبِ التّلقينِ الجافِ إلى تشجيعِ المطالعةِ الحرّةِ والنّقاشاتِ مِن شأنِهِ أن يغرسَ في الطّلابِ حبَّ القِراءة، كمَا يجبُ ألّا نغفلَ عَن دورِ وزارةِ الإعلامِ في تكثيفِ حَملاتِ التّرويجِ للكتبِ وتحفيزِ النّاسِ على القراءةِ بأساليبٍ جذّابةٍ عبرَ وسائلِ الإعلامِ ومِنصّاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ.

أمّا على صعيدِ الفَرد، فالأمرُ يحتاجُ إلى خطوةٍ بسِيطة: اخترْ كتابًا، عُدْ إلى دفءِ صفحاتِه، والْجَأ إليهِ في أوقاتِ فراغِك.

في المُحصِّلة، ليستِ القراءةُ ترفاً ولا هواية، ولم تكُن يوماً كذلِك، وفي زمنٍ تتلاشى فيه الحقائِقُ وسطَ كلِّ هَذا الضّجيجِ الإلكترُونيّ، أصبحَت هي طوقَ النجاةِ الوحيدِ للحفاظِ على الوعي. فمتى نعيدُ للكتابِ مَكانتَه؟