الوِحدةُ فِي زَمنِ الازدِحام

بقلم: نيللي جهاد كولكو
تدقيق: هادي محمود نصّار

يَظُنُّ كَثيرٌ مِن النّاسِ أَنَّ الإزدِحامَ كَفيلٌ بِأَن يَطرُدَ الوَحدةَ مِن حَياةِ الإِنسان، غَيرَ أَنَّ الواقِعَ يُثبِتُ خِلافَ ذلِك. فَفي زَمَنٍ تَمتَلِئُ فيهِ الشَّوارِعُ بِالبَشَر، وَتَزدَحِمُ فيهِ المُدُنُ بِالأَصواتِ وَالأَضواء، يَعيشُ عَدَدٌ كَبيرٌ مِن النّاسِ شُعورَ العُزلَةِ وَالفَراغ. فَهَل تَكفي الكَثرةُ مِن حَولِنا لِنَشعُرَ بِالقُربِ الحَقيقيّ؟

إِنَّ الوَحدةَ في هَذا العَصرِ لَيسَت اِنْعِزالاً جَسَديّا، بَل هِيَ اِنقِطاعٌ وُجدانِيّ. فَقَد يَجلِسُ المَرءُ في مَكانٍ مُكتَظّ، غَيرَ أَنَّهُ لا يَجِدُ مَن يُصغي إِلى هُمومِهِ أَو يُشارِكُهُ أَفكارَه. وَهَكَذا يَتَحوَّلُ الإزدِحامُ مِن مَصدَرِ طُمأنينَةٍ إِلى مِرآةٍ تُظهِرُ غُربَتَنا الدّاخِليّة.

وَقَد أَسهَمَ التَّطَوُّرُ الحَديثُ في تَعمِيقِ هذِهِ المُفارَقَة. فَوَسائِلُ التَّواصُلِ أَضافَت إِلى حَياتِنا مِئاتِ الأَسماءِ وَالصُّوَر، لَكِنَّها في الوَقتِ نَفسِهِ قَلَّلَت مِن قِيمَةِ اللِّقاءِ الإِنسانيِّ الصّادِق، حَتّى أَصبَحَ المَرءُ يَكتُبُ كَثيراً وَيَتَحَدَّثُ كَثيرا، غَيرَ أَنَّهُ نادِراً ما يَجِدُ مَن يَفهَمُ صَمتَهُ أَو يُقَدِّرُ مَشاعِرَه.

وَمَعَ ذلِك، فَإِنَّ عِلاجَ الوَحدةِ مُمكِن. فَالقَلبُ لا يَحتاجُ إِلى كَثرةٍ، بَل إِلى صِدق. إِنَّ وُجودَ شَخصٍ واحِدٍ مُخلِصٍ قَد يَكونُ أَثمَنَ مِن زِحامٍ كامِل. كَما أَنَّ الإيمانَ بِالله، وَمُصارَحَةَ النَّفس، يَمنَحانِ الإِنسانَ قُوَّةً داخِلِيّةً تَجعَلُهُ قادِراً عَلى مُواجَهَةِ العُزلَةِ بِطُمأنينَةٍ وَسَلام. وَيَبقى السُّؤالُ: أَيُّهُما أَثمَنُ لِلإِنسان، كَثرةُ الوُجوهِ مِن حَولِه، أَم صِدقُ القُلوبِ القَليلَةِ الّتي تُشارِكُهُ دَربَ الحَياة؟