ندى شريف
إنّ أيّةِ دولة في أيّ مكان في العالم تحتاجُ إلى حاكمٍ لتسيير أمورها بحسب الدّستور المعمولِ به في كلّ دولة.
ولكن ماذا نقصدُ بالدّولة العميقة؟
الدّولة العميقة: مصطلحٌ يدلُّ عل أجهزة حكمٍ غير منتخبة ترسمُ سياساتِ الدّولة من وراء الكواليس وتتحكم بمصيرها.
وبمفهوم آخر الدولة العميقة تعبّر عن تحالفٍ عميق يجمعُ النُّخب والنّافذين في الدّولة من إداريّين وسياسيّين وإعلاميّين وعسكريّين بالإضافة إلى رجال دين وأحزاب تجمعهم مصالحَ اقتصاديّة وسياسيّة ومشاريع تجاريّة وماليّة وعلاقات اجتماعيّة وعائليّة أو روابط طائفية ودينية، وما يوحّدهم هدف واحد هو الإبقاء على مصالحهم وامتيازاتهم واستثنائهم من أيّةمساءلة قانونيّة عن طريق أفراد لهم نفوذهم في المؤسّسات السّابقة.
ولربّما اعتاد البعض على سماع مصطلح الدّولة العميقة في الحديث عن أمريكا أو بريطانيا وغيرها من الدّول العظمى. فدولة صغيرة بحجمها كلبنان يعتبر البعض أنّ هذا المصطلحَ لا ينطبق عليه من النّاحية الشكلية، إلا أنّ مَن ينظر إلى الواقع اللّبنانيّ يرى أنّ نواة الدّولة العميقة هم أصحاب النّفوذ السّياسيّ والماليّ الّذين مارسوا كلّ أنواع الموبقات في حكم النّاس والتّسلّط على أموالهم وكراماتهم وأطلقوا أجهزة حكم غير منتخبة تتحكّم بمصير الدّولة لتصبح أقوى منها ومن توجّهاتها وشكّلوا واجهات سياسيّة لأدوات البنك الدّولي بعدما حكموا ومكّنوا المصارف من إدارة البلاد وشؤون العباد..وما يحصل من انهيار وتداع للدّولة اليوم سببه التّركيبة الطّائفية والمذهبيّة الّتي دقّت إسفين منهج المحاصصة والسّرقات ورسّخت مبدأ الفساد والهدر. بالاضافة الى تطبيق نظام الاقتصاد الحرّ في بلد لا ينتج ولا يزرع وجلّ ما يفعله الاستيراد من الخارج.
تشتدّ الأزمة الاقتصاديّة والماليّة في لبنان يوميّاً مع غياب الحلول الّتي باتت غير واردة في الأفقِ القريبِ نظراً لشدّة الأزمة المعقّدة بعد استنزافٍ دام عشرات السّنين ونظام ماليٍّ وسياسيّ أنتجتْه الطّبقةُ السّياسيّة اللّبنانية على قياس مصالحها بالتّحالف مع أصحاب الدّولة العميقة.
لا شكّ بأنّ هذه الأزمة ليست وليدة السّاعة بل هي نتاج سياسات الدّولة الفاشلة عبر العهود وانتشار الفساد في الإدارات العامّة وغيره من التّجاوزات الحاصلة على كافّة الصّعُد.
إنّ النّظامّ اللّبنانيّ الحاليّ يلفظُ انفاسه الأخيرة والسّقوط سيكون على الجميع واحتمالات النّهوض ضئيلة جدّاً أما الإصلاح فسيكون مستحيلاً مع بقاء أصحاب الدّولة العميقة الحاليّين ومعهم الطّبقة السّياسيّة الحاليّة،وسينتج عن هذا السّيناريو ما يسمّى ب”العقد الضّائعة”.
والخلاصة أنه في مفهوم “الدولة العميقة” النُّظُمَ السّياسيّة لا تموت موتاً مفاجئاً، وإنما هي مثلها مثل العديد من الظّواهر الاجتماعيّة الأخرى لها دورة حياة، تبدأ بالتّدرّج وتنتهي كما بدأت أيضاً ، ومن ثمّ فمن الطّبيعيّ جدّاً، وبل ومن الحتميّ، أن تستمرّ تحالفات وشبكات كانت لها مصالح في إطار نظم سياسية معينة في السّعي للحفاظ على هذه المصالح، حتّى بعد وضع نهاية شكليّة لنظم الحُكمِ السّابقة.