بينَ الأصالَةِ والتَّجدُّد.. المُونةُ اللُّبنانيَّةُ تكتبُ فصلاً جديداً فِي ريادةِ الأعمَال

بينَ الأصالَةِ والتَّجدُّد.. المُونةُ اللُّبنانيَّةُ تكتبُ فصلاً جديداً فِي ريادةِ الأعمَال

بقلم: علي رضوان سعيد
تدقيق : فاطمة محمّد صالح الموسويّ

فِي لُبنان، ليسَتِ المُونةُ مجرَّدَ طَعامٍ مَحفوظٍ فِي الأوانِي الزُّجاجيَّة. إنَّهَا ذاكرةٌ وحِكايةُ بَيتٍ وامتِدادٌ لِعلاقةِ اللُّبنانيِّ بِأرضِه. بينَ أصابعِ الجدّاتِ الّتِي كانَت تُقطِّرُ المُربّى فِي المطابِخ، وأيدِي الشَّبابِ الّذينَ يُصنِّعونَ منهَا اليومَ علامةً تجاريَّة، تمتدُّ خيوطُ قصَّةٍ تجمعُ بينَ التُّراثِ والابتِكارِ والتِّجارة. فَهل تستَطيعُ المُونةُ اللُّبنانيَّةُ أنْ تُحافظَ علَى روحِهَا الأَصيلَةِ فِي زمنِ التِّجارةِ الواسِعَة؟

مُنذُ عُقود، كانَتِ المُونةُ جُزءاً مِن حياةِ كلِّ بيتٍ لُبْنانيّ. معَ نهايةِ الصَّيفِ تبدَأُ العائِلاتُ بِتحضيرِ المُؤنِ الشِّتويَّة: مُربّى التِّينِ والمِشمِش، مُخلَّلُ الخِيار، دِبسُ العنَب، الزَّيتونُ وزيتُ الزَّيتونِ المَعصور. كانَتِ العمليَّةُ تُشبِهُ احتِفالاً صَغيرا. تلكَ المَشاهدُ لَم تَختف، لكنَّهَا اليومَ اتّخذَتْ شَكلاً جَديدا. فَالمونةُ لَم تعُد فقَط “مُونةَ البيتِ” بَل أصبحَت مُنتجاً محلِّيّاً ينافسُ فِي الأسواقِ ويصَدَّرُ إلَى الخارجِ مِن دونِ أنْ يفقدَ طعمَهُ الأصلِيّ.

تحوَّلَ المطبخُ اللُّبنانيُّ فِي السَّنواتِ الأخيرَةِ إلَى مَساحةِ إنتاجٍ حقيقيَّة. نساءٌ منَ القُرى والمدنِ عَلى حدٍّ سواءٍ وجدنَ فِي المُونةِ باباً لِلرِّزقِ والإسِتقلاليَّة. مَشاريعُ صَغيرةٌ انطلقَت منَ البيوتِ لِتكبرَ شيءً فشَيء، بعضُهَا وصلَ إلَى مَعارضَ دُوليَّة، وبعضُهَا صارَ عَلامةً تجاريَّةً مَعروفَة. ورغمَ أنَّ السُّوقَ فرضَت شُروطَهَا منْ حيثُ التَّعبئةِ والوسمِ والمعاييرِ الصِّحّيَّة، إلَّا أنَّ سرَّ المُونةِ اللُّبنانيَّةِ ظلَّ كمَا هُو، لمسَةُ اليدِ ونقاءُ المكوِّنات. فهيَ تُصنعُ بروحِ البيتِ حتَّى لَو خرجَت منهُ إلَى العالَم.

“سارَة” شابّةٌ لبنانيَّةٌ فِي أواخرِ الثّلاثينَات، بدأَت رحلتَهَا معَ المُونةِ منذُ أَن كانَت طفلةً تشاهدُ جدَّتَهَا ووالدتَهَا تحضِّرانِ المخلَّلاتِ والمُربّياتِ مِن فواكِهِ الموسِم. قبلَ خمسِ سنواتٍ قرَّرَت أنْ تحوِّلَ حبَّهَا لِلمُونةِ إلَى مشروعٍ صَغير. تتذكَّرُ “سارَة” بداياتِهَا جيِّدا، كيفَ بدأَت فِي مطبخِهَا الصَّغيرِ مُحضِّرةً المُربَّياتِ والمُخلّلاتِ بِيديهَا، وتبيعُهَا لأقاربِهَا والجيرانِ فِي القريَة. تقُول: “لَم يكُنْ لديَّ رأسُ مالٍ لكنَّنَي قرَّرتُ أنْ أبدأَ مِن لاشَيء، خاصَّةً معَ بدءِ الأزمَة الإقتصاديَّةِ الخانقةِ فِي ذلكَ الوَقت.” وتُضيفُ بِفخر: “معَ الوقتِ بدأَ المشروعُ يكبُر. تعلَّمتُ أساليبَ التَّعبئةِ والتَّسويقِ وصارَ لِي زبائنُ داخلَ لُبنانَ ومنَ المغترِبينَ خارِجَه. اليَوم، مَا زلتُ أحرصُ أنْ تبقَى المُونةُ كمَا عرفتُهَا فِي بيتِنَا، طعاماً يحملُ الهُويَّةَ اللُّبنانيَّة، ليسَ مجرَّدَ منتجٍ لِلتَّسويق.”

هذهِ القصَّةُ تعكسُ تحدِّياً كبيراً يواجهُهُ المنتجونَ اللُّبنانيّونَ لِلمُونة، يتمثَّلُ فِي الحفاظِ عَلى الجودةِ مقابلَ متطلَّباتِ السُّوقِ الحَديث، والقدرةِ عَلى الوُصولِ إلَى المستهلكِ معَ عدمِ التَّفريطِ فِي النَّكهةِ الأصليَّة. هنَا تتميَّزُ المُونةُ اللُّبنانيَّةُ فِي قدرتِهَا عَلى التَّجدُّدِ دونَ أنْ تتخلَّى عَن هُويَّتِهَا. فبينمَا غزتِ الأغذيةُ الصِّناعيَّةُ الأسواقَ بقيَ اللُّبنانيُّ يلتفِتُ إلَى المُونةِ كرمزٍ للثِّقةِ والجودةِ والطَّبيعَة. بِمعنى آخَر، فِي زمنِ السُّرعةِ والمنتجاتِ الجاهزَة، ظلَّتِ المُونةُ اللُّبنانيَّةُ حاجةً أساسيَّةً للمواطنِ لا بَديلَ لهَا.

المُونةُ اللُّبنانيَّةُ اليومَ تعيشُ بينَ عالَمين، التُّراثِ والتِّجارة. لكنَّهَا لَم تفقدْ توازنَهَا. فهيَ ظلَّت صوتَ الأرضِ وإرثاً نابضاً بالحَياة. إنَّمَا السُّؤالُ البديهيُّ الَّذي يُطرَح: هلْ تنجحُ الأجيالُ القادمةُ فِي صونِ هذَا الإِرث، ومواصلةِ تقديمِ المُونةِ اللُّبنانيَّةِ للعالمِ بذاتِ الرُّوحِ الَّتي ولدَت منهَا؟