بقلم: علي رضوان سعيد
تدقيق: هادي محمود نصّار
مَع بَدءِ كلِّ خَريف، يتجدَّدُ فِي لبنَانَ خطَرُ حَرائقِ الغابَاتِ الَّتي تهدِّدُ مساحَاتٍ شاسعَةٍ مِن الأحرَاج. ومَا كانَ امتدَاداً أخضَرَ للجبَلِ والسَّاحِل، صارَ مساحَةً مُهدّدةً بالاشتعَالِ مَع كلِّ موسِمِ جفَاف. لَم تعدِ الحرائِقُ فِي لبنَانَ “أخبارً موسميَّةً” تتناقلُهَا الشَّاشَات، بَل ظاهرَةً تكشِفُ عمقَ الخلَلِ فِي علاقَةِ اللّبنانِيِّ بطبيعَتِه، وعجزِ الدَّولَةِ عَن صَونِ ما تَبقَّى مِن مساحاتِهَا الخَضرَاء. صَحيحٌ أنَّ الحرائِقَ جُزءٌ مِن دورَةِ الطَّبيعَة، لَكِن هَل يُعفَى الإهمَالُ مِن دورِهِ فِي تحويلِهَا إلى مأسَاةٍ متكرّرَةٍ فِي لُبنَان؟
السّبَبُ كَما يَبدُو للوهلَةِ الأولَى طَبيعِيّ، مَوجَةُ حرٍّ استِثنائيَّة، رِياحٌ شَرقيّةٌ جافَّة، وأعشَابٌ يابِسَة. لَكِن وَراءَ هذهِ العَواملِ المُباشرةِ مَشهدٌ أكثرُ تَعقِيدا. فالنّارُ الَّتي تشتعِلُ فِي وادٍ مَنسيٍّ لا يوقظُهَا المُناخُ وَحدَه، بَل أيضاً إهمَالٌ مزمِنٌ وعَاداتٌ خاطِئَة، وأحياناً فِعلٌ مُتعمَّد. فِي الكَثيرِ مِن القُرى، مازالَ الحَرقُ وسيلَةً سريعَةً للتّخلُّصِ منَ الأعشابِ أو النّفايَاتِ الزِّراعيَّة، دونَ أيِّ إدرَاكٍ للمخاطِرِ الّتي قَد تَتحوَّلُ خِلالَ دَقائقَ إلى كارِثَة. ومَا يَزيدُ الطّينَ بلَّة، أنَّ قُرابةَ 30% مِن الحَرائقِ في لُبنانَ تُفتعلُ عَمدا، وَفقَ تَقديراتِ وِزارةِ الزّراعَةِ وتَقاريرِ الدِّفاعِ المَدنِيّ. بعضُهَا مُرتبِطٌ بخِلافاتٍ عَقاريَّة، وبعضُهَا الآخَرُ بِهدفِ تَهيئةِ الأرضِ للبِناءِ أو الزّراعَةِ أو حتَّى لغايَاتٍ تجاريَّةٍ كبَيعِ الحَطبِ في مَشهدٍ يترجِمُ استِهتاراً فاضِحاً بالقَانونِ وغيابِ المُحاسبَة.
لَكنَّ الحَريقَ لا يولَدُ فَقط مِن عودِ ثِقاب، بَل هُناكَ ما هُو أعمَق. لُبنانُ لا يمتلِكُ سياسَةَ غابَاتٍ متكاملَةً ولا مَنظومَةَ إنذارٍ مُبكِر، ولا خَرائطَ دقيقِةً لمَناطِقِ الخَطَر. الدِّفاعُ المَدنيُّ يَعملُ بإمكاناتٍ محدودَةٍ جِدّاً وبآليَّاتٍ قديمَةٍ غالِبا. أمَّا البلديَّات، فتُعانِي مِن نَقصٍ فِي التَّدريبِ والمُعدّاتِ أيضا، هكَذا تتحوَّلُ معظَمُ الحَرائقِ إلى معَاركَ طويلَةٍ تُخاضُ بالماءِ والإرهَاقِ والدُّعَاء.
علَى صَعيدِ الخَسائِر، فالأرقَامُ واضِحَة. بينَ 150 و 200 حَريقِ غابَاتٍ سَنويّا، تدمَّرُ خلالَهَا آلافُ الهِكتاراتِ منَ الغِطاءِ الحِرجِيّ، فِي بلَدٍ لا تتجاوَزُ نسبَةُ المَساحَاتِ الحرجيَّةِ فيهِ 13% مِن أراضِيه. خَسائرٌ لا تقدَّرُ بالأشجَارِ فَقط، بَل بتداعياتِهَا علَى المُناخِ المحَلِّيّ، وعلَى التربَةِ والميَاهِ الجوفِيَّة، وعلى صحَّةِ السّكَّانِ الّذينَ يختنقُونَ بالدّخَانِ ويخسَرونَ جُزءاً مِن بيئتِهِم كلَّ عَام. فبحسَبِ خبرَاءِ البيئَةِ والمُنَاخ، يصبِحُ الهَواءُ فِي المناطِقِ المتضرّرَةِ مثقَلاً بجزيئَاتِ الرّمَادِ والدُّخَان، مَا يجعَلُ التّنفُّسَ أصعَبَ ويحوِّلُ سمَاءَ الخَريفِ إلى غشَاءٍ خَانِق. وفقَ الخُبَراء، يمكِنُ لهذِهِ الملوّثَاتِ أن تَبقَى عالقَةً لأيّامٍ وتؤثِّرَ علَى جودَةِ الهَواءِ والمنَاخِ المحلِّيِّ بشَكلٍ مبَاشَر. هَذا عَدا عَن تراجُعِ المواسِمَ الزِّراعيَّة، وهجرَةِ الحيوانَاتِ البَريَّة. باختِصَار، يدفَعُ المواطِنُ الثّمَنَ بيئِيّاً وصحِّيّاً واقتصَادِيّا، بينَمَا تبقَى المساءلَةُ غائِبَة.
رُغمَ ذلِك، تخرُجُ مِن بَينِ المشهَدِ الرّمادِيِّ مبادرَاتٌ محلّيَّةٌ تذكِّرُ بأنَّ الوَعيَ لا يَزالُ حَيّا. ففِي القُرَى الجبليَّة، ينظِّمُ شبَّانٌ ومتطوِّعونَ حملَاتِ تشجِيرٍ وتنظِيفٍ ويقيمُونَ ورَشَ توعِيَة، ويستخدمُونَ وسائِلَ التّواصُلِ للتّبلِيغِ عَن أيِّ دخَانٍ يُرى عَن بُعد، فِي سَبيلِ مكافحَةِ الحرائِقِ والوقايَةِ مِنهَا. إضافَةً لذلِك، جمعيَّاتٌ بيئيَّةٌ بدَأت بالعمَلِ مَع البلديَّاتِ لتحدِيدِ نقَاطِ الخطَرِ ورَسمِ خرائِطَ استباقِيَّة، فِي حينِ بَدأَت بَعضُ المدارِسِ تدرِّسُ مبادِئَ الوقايَةِ البيئِيَّة. هيَ جهُودٌ محدُودَة، لكنَّهَا تعبِّرُ عَن وَعيٍ متجدِّدٍ يرَى فِي الغابَةِ أكثَرَ مِن مشهَدٍ طبيعِيٍّ فقَط.
لكنَّ الوَعيَ الشّعبِيَّ وحدَهُ لا يكفِي مَا لَم يقتَرِن بإدارَةٍ رسميَّةٍ واضِحَة. المطلُوبُ قانُونٌ أكثَرَ صرامَةً ضِدَّ مفتعِلِي الحَرائِق، واستراتيجيَّةٌ تدمِجُ بينَ البلديَّاتِ والدِّفاعِ المدنِيِّ ووزارَةِ البِيئَة، تعتمِدُ علَى الوقايَةِ لا انتظَارِ الكارثَةِ والإطفَاءِ فَقط. كَما أنَّ لبنَانَ بحاجَةٍ إلى استثمَارٍ فِي التّكنولوجِيَا، مِن أنظمَةِ مراقبَةٍ متطوّرَةٍ إلى أنظمَةِ الإنذَارِ المُبكِر، إضافَةً إلى تَدريبِ وحدَاتِ استجابَةٍ سَريعَة. فالنَّارُ عادَةً لا تنتظِرُ قَراراً وزارِيّاً ولا موازنَةً مؤجَّلَة.
فِي النّهَايَة، الحرائِقُ فِي لبنَانَ ليسَت مجرَّدَ نيرَانٍ تلتهِمُ الغَابَات، بَل صورَةٌ عَن الإهمَالِ الّذِي يلتهِمُ كلَّ مَا هُو جَميلٌ فِي هَذا البَلد. البيئَةُ لَيسَت مَلفّاً ثانوِيّاً علَى طاولَةِ السِّياسَة، بَل قضيَّةُ حيَاةٍ واستِمرَار . فمَتى نقتنِعُ أنَّ الغابَةَ الّتي نحرِقُهَا اليَوم، هيَ الهَواءُ الّذي سنفقدُهُ غَداً؟