حوادثُ السَّيرِ فِي لُبنان: تهوُّر، إهمَال، والنَّزيفُ متواصل

حوادثُ السَّيرِ فِي لُبنان: تهوُّر، إهمَال، والنَّزيفُ متواصل

بقلم: علي رضوان سعيد
تدقيق: هادي محمود نصّار

فِي كُلِّ يَوم، تُزهَقُ أرواحٌ علَى طُرقاتِ لُبنان، وتتحوَّلُ لَحظاتُ تهوُّرٍ بَسيطةٍ إلى مآسٍ لا تُمحَى مِن ذاكِرةِ الكَثيرين. حَوادِثُ السَّيرِ لَيسَت مُجرَّدَ أرقامٍ في تَقارِيرٍ رَسميَّة، بَل قِصصٌ إنسانيّةٌ مُؤلِمةٌ تَعكسُ هَشاشةَ البُنيةِ التَّحتيَّةِ وضَعفَ الإلتِزامِ بالقَوانينِ المُروريَّة، وتَطرحُ سُؤالاً مُلِحّا: إلى مَتى سَتستمِرُّ هذهِ المأسَاة؟

تُشكِّلُ حَوادِثُ السَّيرِ فِي لُبنانَ واحِدةً مِن أَكثَرِ الأزماتِ نَزفاً وإهمَالا، إذ تَحصُدُ سَنويّاً مِئاتِ الأَرواحِ وتَترُكُ خَلفَها آلافَ الجَرحَى والإعاقاتِ الدّائمَة، فيمَا تَغيبُ خُطّةٌ وَطنيّةٌ واضِحةٌ لِوقفِ هذا النَّزيف. والشَّبابُ هُم وُقودُ هذهِ المَأساة، يَسقُطونَ على الطُّرقاتِ بفِعلِ السُّرعةِ الجُنونيَّة، القِيادةُ المُتهوِّرةُ تَحتَ تَأثيرِ الكُحولِ أَو المُخدِّرات، والإنشِغالُ بالهَواتِفِ الذَّكيّةِ فِي أَثناءِ القِيادَة. ولا تَقتصِرُ المُشكلةُ علَى تهوُّرِ السَّائقين، بَل تَتفاقَمُ بفِعلِ الطُرقاتِ المُظلمةِ و المليئَةِ بالحَفريّات، البُنيةِ التّحتيَّةِ مُهترِئة، والإهمالِ الكَبيرِ فِي أعمالِ الصِّيانَة، ما يَجعَلُ التّنقُّلَ اليَوميَّ أَشبهَ برِحلةٍ مَحفوفةٍ بالمَخاطِر.

تُشيرُ بَياناتُ قُوى الأَمنِ الدّاخِليِّ إلى أَنّ الأَشهُرَ الخَمسَةَ الأُولى مِن عام ٢٠٢٥ شهِدت فُصولاً دامِيةً على صَعيدِ حَوادِثِ السَّير، حيثُ سَجّلت ٨٧٦ حادثاً خَلّفت ١٦٢ قَتيلاً ١٠٤٣ جَريحا. أَمّا جَمعيّةُ ” اليازا ” للسَّلامةِ المُروريّةِ، فَقَد سَجَّلت أَكثَرَ من ٤٠ حالةِ وَفاةٍ في شَهرِ آب وَحدَه، وهوَ رَقمٌ مُرعِبٌ فِي هذا الإطَار، مُحذِّرةً مِن احتِمالِ تَجاوُزِ حَصيلةِ العَامِ عَتبةَ الأَلفِ قَتيل.

ولا تَقتصِرُ تَداعياتُ الحَوادِثِ على الجانِبِ الإنسانِيّ، بَل تَمتدُّ لتُكبِّدَ الإقتصادَ اللُّبنانيَّ خَسائرَ جَسيمَة، من تَكاليفِ استشفائيَّةٍ وتَعويضاتٍ إلى فُقدانِ اليَدِ العامِلةِ الشّابة، ما يَجعَلُ الخَسائِرَ ماديّةً ومعنويَّةً على حَدٍّ سَواء. ويَرى خُبراءُ النَّقلِ أَنّ وَقفَ هذهِ المأساةِ يَتطلّبُ أَكثَرَ مِن البَياناتِ المَكتوبَة، بَدءاً مِن تَطبيقٍ صارِمٍ للقَوانينِ بَعيداً عَن المَحسوبيَّات، تَحديثٌ شامِلٌ للبُنيَةِ التّحتيَّةِ بما يُواكِبُ مَعاييرَ السَّلامَةِ الدّوليَّة، وإطلاقِ بَرامِجِ تَوعيةٍ مُستمرّةٍ في المَدارسِ والجّامعات. وإلى جانِبِ ذلِك، يَبقى اعتِمادُ التّكنولُوجيا، مِن راداراتٍ وكاميراتِ مُراقَبة، رَكيزةً أَساسيّةً لِضبطِ الفَوضَى المُروريّةِ وتَحويلِ الطُرقاتِ مِن ساحاتِ مَوتٍ إلى مَساراتٍ آمِنة.

فِي الخِتام، وفي ظِلِّ النَّزيفِ المُستمرِّ فِي الأَرواحِ على طُرقاتِ لُبنان، ومَع كُلِّ حادثٍ جَديد، يُثبِتُ حَجمَ الإهمالِ المُزمِن، يَبقى السُّؤالُ الّذي يَفرِضُ نَفسَه: هَل سَتتحرَّكُ السُّلطاتُ والمُجتمعُ قَبلَ أن تَتحوَّلَ الطُرقُ اللُّبنانيّةُ إلى مَقبَرةٍ مَفتوحَة، أَم سَنظلُّ مُجرَّدَ شُهودٍ علَى المأساةِ المُتكرِّرة؟