رسائلُنَا السِّرِّيَّةُ إلَى السَّماء

رسائلُنَا السِّرِّيَّةُ إلَى السَّماء

بقلم: حنين محمّد عكاري
تدقيق : فاطمة محمّد صالح الموسويّ

تُطفَأُ الأضوَاء، ويظلُّ وهجُ الشُّموعِ يرقصُ علَى الوجوهِ كآخرَ نَفَسٍ لِلزَّمن. يُغمِضُ الإنسانُ عينِيه، ويَحمِلُ نفسَ الأمنياتِ الّتِي تفتَّحَت فِي عامٍ مضَى، فتعلُو خُيوطُ الدُّخانِ حاملةً الأحلامَ إلَى السَّماء. فِي تلكَ اللَّحظةِ ننتقِلُ مِن مُتلقِّينَ صامتينَ إلى واهِبينَ لِلحُلم، نضعُ قلوبَنَا بينَ يدَي الكونِ ونرجُوهُ أنْ يحفَظَ مَا أودعنَاهُ فِيه . فكيفَ تحوَّلَت لحظةُ إطفاءِ الشُّموعِ مِن طقسٍ بسيطٍ إلَى رمزٍ يجمعُ بينَ الحُلمِ والأسطورةِ والذَّاكرةِ الإنسَانيَّة؟

‏فِي لحظةِ إغماضِ العَينينِ ينقطِعُ الخيطُ الّذِي يربِطُنَا بالواقِع، ونجدُ أنفسَنَا وجهاً لوجهٍ معَ عالمِ الدّاخِل؛ ذاكَ الفضاءُ السِّرِّيُّ الّذِي لا يزورُهُ سِوانا. هنَا تُصبحُ الشُّموعُ أكثرَ مِن مجرَّدِ نارٍ صغيرةٍ فوقَ كعكَة، إنَّها نُجومٌ صغيرةٌ تتَلألأُ علَى أرضٍ مِن حلوَى السُّكّر ، وبوّابةٌ صغيرةٌ لِلخيالِ نخطُو مِن خِلالهَا نحوَ مَا نتمنَّى أنْ يَكون .

‏مَا إنْ ينطفِئُ اللَّهيبُ حتَّى يَصعدَ الدُّخانُ الأبيَض، كهمسةٍ خفيّةٍ مِن أفكارِنَا وأحلامِنَا؛ ليسَ مجرَّدَ أثرٍ لإحتراقِ الشَّمع، بَل إستعارةً لرغباتِنَا الّتِي تودُّ التَّحلِيقَ خارجَ حُدودِ القَلب ، جِسراً رقِيقاً بينَ صخبِنَا الدّاخليِّ وهدوءِ السَّماء، بينَ ضِيقِ الأمنِياتِ واتّساعِ الإحتِمالات. حتَّى لَو لَم تصِل أمنيّةٌ واحِدة، فإنَّ هذَا الدّخانَ صنعَ معجزةً بِالفعلِ: جعلَنَا نَشعرُ أنَّنا نملِكُ القدرةَ علَى تَشكيلِ لحظاتِنَا، وأنَّ لأحلامِنَا صدىً فِي الكَون؛ فالقوّةُ ليسَت فِي النَّتيجة، بَل فِي فِعلِ التَّمنِّي ذاتِه.

‏ومِن خلفِ هذَا السِّحرِ يُطِلُّ التّاريخُ ببُطء؛ فالأسطَورةُ ليسَت وليدةَ خيالٍ حدِيث، بَل جذورُهَا ضاربةٌ فِي أعماقِ الفُولكلورِ الألمانيِّ القدِيم، حيثُ كانَتِ الشُّموعُ علَى الكعكةِ تُجسِّدُ سنواتِ العُمر، وكانَ إطفاؤُهَا جميعاً بِنَفَسٍ واحدٍ فألاً حسَنا. وعبرَ الزّمنِ وحركةِ النّاسِ بينَ البُلدان، حملَتِ الأجيالُ هذهِ الطُّقوسَ إلَى العالمِ كلِّه، حتَّى صارَت جزءاً مِن احتِفالٍ جَماعيٍّ نتشاركُهُ جمِيعا. وعندمَا نُمارِسُها اليومَ لا نُعيدُ مجرَّدَ طقسٍ عائِليّ، بَل ننسُجُ خيطاً رقيقاً يصلُنَا بسِلسلةٍ طويلةٍ منَ الذّاكرةِ الإنسَانيَّة، لتُذكِّرَنَا دوماً بأنَّ الرَّغبةَ فِي الحُلمِ هِي مَا يجعلُ منَّا بَشرا.

‏لَم يكُن إختيارُ الدّخانِ صُدفة؛ فهوَ نصفُ حُلمٍ ونصفُ واقِع، جسرٌ رقِيقٌ بينَ عامٍ يذوبُ خلفَنَا وعامٍ يُولَدُ فِي نَفَسٍ جدِيد. لحظةُ إطفاءِ الشُّموعِ ليسَت تقليداً عابِرا، بَل طقساً خفِيّاً يُحرِّرُ الأمنياتِ منَ القلبِ ويُرسلُهَا إلَى السّماء. وهكذَا، يبقَى الدّخانُ أثراً عابِراً فِي العَين، لكنَّهُ رمزٌ خالدٌ لرحلةِ الأملِ الّتِي لا تنتَهي. فهَل للأحلامِ حدُود، أمْ أنَّ لكلِّ أمنيّةٍ جناحاً يطيرُ فِي سماءِ الحَياة؟