فِي المَزرعةِ – الغابةِ اللُّبنانِيَّةِ ، أو ” العَصفوريَّةِ ” كَما باتَ يَصِفُها الكثيرونَ ، تَتلاشى يَومًا بعدَ يَومٍ أَدْنى مُقوِّماتِ اَلدَّولةِ حتَّى كادَتْ ان تَكونَ مُنْعدمَةً. انْفلاتٌ فِي سِعرِ صَرفِ اللِّيرةِ ، انْفلاتٌ فِي أسعارِ السِّلَعِ ، انعدامٌ للأَمنِ الاجتماعِيِّ ، وُصُولاً إلى الانفِلاتِ القضائِيِّ خلالَ الأيَّامِ الماضيةِ ما يُنذرُ بِتَداعي الهيكَلِ فَوقَ رُؤوسِ الجميعِ . انفجرَتْ قَضائِيًّا بين النّائبِ العامِّ التَّمييزيِّ القاضي “غسّان عويدات” وَالمحقِّقُ العدليُّ في قضيَّةِ انفِجارِ 4 أَبِ القاضي “طارق البيطار” على خلفيَّةِ القراراتِ التي اتَّخذها الأخيرُ لتنطلقَ بعدَها حَفلةُ الجُنونِ القضائيِّ الحاصلةِ .
وفي التَّفاصيلِ ، فجَّرَ القاضي “بيطار” مفاجأةً من العِيارِ الثَّقيلِ مُعلنًا استئْنافَ تَحقيقاتِهِ بَعْدَ تَوقُّفِها لما يُقاربُ 13 شهرًا نتيجةَ طَلباتِ الرَّدِّ المقدَّمةِ ضدَّهُ . وَمع اِنْسدادِ الأفقِ لِلبتِّ بهذه الطَّلباتِ ، لأَسْبابٍ تِقنيَّةٍ خلفيَّتها سياسيّة، أتتْ هذه العَوْدةُ بالِاسْتنادِ إِلى اجتهادٍ قانونيٍّ شخصيّ عادَ بِموجِبهِ إِلى عَملهِ ، وأرفقَ خُطوتَهُ هذه بسلسلَةٍ من القراراتِ التي تضمَّنتْ طلبات إِخلاءِ سبيلٍ لِبعضِ الموقوفينَ ، وَتَحديدِ جلساتِ استِجوابٍ لِبعضِ السِّياسيِّينَ ممَّنْ كانَ قدِ اسْتدعاهُمْ سابقًا ، إِضافةً إلى عَددٍ مِنْ الاسْتدعاءاتِ التي طاوَلتْ مدير عام الأَمنِ العامِّ اللِّواءِ “عبّاس إبراهيم” ، واللِّواء “طوني صليبا” مُدِير عام أمنِ الدَّولةِ ، وقائد الجيش السَّابق العماد “جان قهوجي”.
ولم يكتَفي بهذا الحدِّ ، إذ طالتْ شَظايا قراراتِهِ الادِّعاء على بَعضِ القضاةِ وعلى رأسهِمْ “عويدات”.هذه الخُطواتُ ردَّ علَيها النّائبُ العامّ التَّمييزي القاضي “غسان عويدات” بإجراءاتٍ بدأتْ بالادّعاءِ على “البيطار” “المَكفوفَةِ يَدُهُ” بحسبِ “عويدات”، وصولًا إلى إخلاءِ سبيلِ جميعِ المَوقوفينَ بقضيَّةِ انفجارِ ٤ آب، عِلمًا أنّ “عويدات” كانَ قد تنحّى سابِقًا عن الملفِّ نَظرًا لصلَةِ القَرابةِ التي تَجمَعُهُ بالوزيرِ المُدّعى عليهِ “غازي زعيتر” ، إلّا أنَّهُ عادَ ليضَعَ يدَهُ على الملفِّ متّخِذًا سلسلةَ الإجراءاتِ التي وصَفها أهالي الضَّحايا بالرّصاصَةِ الأخيرةِ التي قضَتْ على الحقيقَةِ و العدالَةِ.
ولعلَّ أخطرَ ما في الأمرِ، أنّ سياسةَ الكيلِ بمِكيالَينِ، و التي ترسمُ مشهدَ الصّراعِ القضائيِّ المُقبلِ، تشرِّعُ أبوابَ تخلِياتِ السَّبيلِ الكيديَّةِ.
خاصَةً أنّهُ تردّدَ في الأيّامِ الماضيَةِ مطالبةً بعضَ أهالي المَوقوفينَ بقضايا مختلفَةٍ بإخلاءِ سبيلِ أبنائِهِم أُسوَةَ بما حصَلَ مع موقوفي قضيَّةِ المرفَئِ.
فماذا لو أصبحَ التَّعاطي في قضيَّةِ تفجيرِ مرفئِ بيروت معيارًا يَتّبعُهُ كامِل الجّسمِ القضائيِّ اللُّبنانيِّ؟
ماذا لو قرّرَ القضاءُ اللّبنانيُّ إخلاءَ سبيلِ عددٍ من المَوقوفينَ بجرائمِ قتلٍ و سرقةٍ وإرهابٍ و غيرها بشكلٍ كيديّ كما يحصلُ في قضيَّةِ المرفئ؟
واقعٌ مخيفٌ يطيحُ بما تبقّى ممّا يسمّى “دولة” .
إنّ هذا الواقعَ المُتشظّي الذي انتهت إليهِ السُّلطةُ القضائيَّةُ في لبنان، و الذي لم يحصُل في تاريخِ المؤسَّسةِ القضائيَّةِ منذُ نشأتِها، ليسَ وليدَ اللَّحظَةِ، بل كانَ منطقيًّا و متوقَّعًا أن يتفكَّكَ هذا الجسمُ نتيجةَ الزّبائِنيَّةِ السّياسيَّةِ و منطقِ المحاصَصةِ و المحسوبيّاتِ الذي رسّختهُ الطّبقَةُ السّياسيَّةُ، على مرّّ عقودٍ من الزَّمنِ، مع كلِّ اصدارٍ لتشكيلاتٍ قضائيَّةٍ، وهذا ما أدّى إلى استشراءِ الفسادِ الذي نخرَ الجسمَ القضائيَّ وصولًا إلى تحلّلِهِ بالكاملِ.
في ظلِّ شريعةِ الغابِ هذه، باتَ الجنونُ حَكَماً، و المستحيلُ ممكنًا، و هذا أكثرُ ما يُرعِب!