في كلِّ مرةٍ، يكون المشهدُ في طرابلس هو الفيصل. هناكَ، في تِلك المَدينةِ المظلومةِ منذُ قيامِ الجمهورِيَّةِ، لَا الجراحُ تلتئِمُ، و لا النَّزفُ يتوقَّفُ أيضًا، يتكثَّفُ ويتَّضحُ ويتوضَّحُ البعدُ الإجتماعيُّ للمواجهةِ السِّياسيَّةِ فِي لبنان.
نحنُ محكومونَ مِن سلطةٍ قاتلةٍ دمَّرَت الخِدمةَ العامَّةَ من تعليمٍ وطبابةٍ لصالحِ القطاعِ الخاصِّ، وإدارةٍ عامةٍ عاجزةٍ عن تقديم الحدِّ الأدنى مِن الخدماتِ العامَّةِ ليسَ في السَّنواتِ الثَّلاثةِ الأخيرةِ فحَسبْ، بل منذُ عقودٍ طويلةٍ. سلطةٌ أَمعنَت فِي هَدْمِ وَطَنٍ عَلَى رؤُوسِ سُكّانهِ. قتَلَت، فَجَّرَت، أُحرَقَت وَ هجَّرَت. فإِلى متى سيستمرُّ مسلسلُ الإستِهتارِ و الإستخفافِ بأرواحِ النّاسِ؟
ماغي محمود، فتاةٌ خرجَت إلى مدرستِها، المكانُ الذي يُفترَضُ أن يكونَ من أكثرِ الأماكنِ أمَانًا للطُّلابِ، ولكنّ الإِهمالَ كانَ لهُ رأيٌ آخرُ، فدَرسُ اليومِ الذي تَلَقَّتهُ ماغي و زملاؤها كان قَاتِلًا، و قبلَ أن يدقَّ الجرسُ، دقَّتْ ساعةُ الموتِ، إنهارَ سقفُ المدرسةِ فوقَ رأسِها كانَ كفيلًا بِأن يَخطِفَ روحَها البريئةَ، شاءَ القدرُ أن ترحلَ ماغي و هِيَ تُطارِدُ أحلامَها على مقاعدِ الدِّراسةِ.
لم تعُد ماغي اليومَ إلى طاولةِ الغداءِ بعد الدِّراسةِ، ولم تشتَكِ من كثرةِ فروضِهَا، فالدَّرسُ انتهى..إلى غيرِ رَجعةٍ، لن تفتحَ ماغي بعد الآن حقيبتَها لتُخرِجَ منها دفترها المُزيّنَ بكلماتٍ جميلةٍ كتَبها صديقُها، ربما لم تُكتب هذه الكلماتُ بعد، ربّما احتاجَت مزيداً من الوقت، ربّما لَم تُحِبَّ بعدُ أو تُحَبّ، ربّما، لكنّنا لن نعرفَ، وهي لَن تعرِف، لا التخرّجَ ولا الحُبَّ ولا الدُّنيا. ماغي طالبةٌ، بعمرِ الوردِ، دخلَت مدرستَها، تلقّت شهادتها الأخيرةَ، وتخرّجت الى السّماء بدرجةِ “مظلومةٍ”
الحادثةُ ليست الأولى، فقد سبقَ أن حصلَ العديدُ من الانهياراتِ لبناياتٍ متهالكةٍ كان آخرُها مبنى الصَّيفِ الماضي في طرابلس وأودى بحياةِ طفلةٍ أيضاً. و كما في كلِّ مرَّةٍ، يكتفي المسؤولونَ بعباراتِ الأسفِ و تقاذُفِ المسؤوليّاتِ مع غيابٍ تامٍّ لأدنى أشكالِ المُحاسبةِ. ومع تكرارِ الانهيارات، تبرزُ من جديدٍ قضيَّةُ سلامةِ المباني. اذ كانت التّقاريرُ الهندسيَّةُ قد أشارَت الى وجودِ أكثرَ من مئةِ مدرسَةٍ تحتاجُ إلى ترميمٍ فوريٍّ في الأراضي اللُّبنانيَّة. لا سيّما في طرابلس، وهي ثاني أكبرِ مدنِ لبنان وفيها تعيشُ البيئاتُ الأكثرُ فقراً، و تعاني من اهمالِ ملفِّ المباني الهشّةِ والمهدَّدةِ بالانهيارِ في البلادِ و التي يمكنُ ان تتحوَّلَ في اي لحظةٍ إلى “مقابرَ جماعيَّةٍ”، حيثُ يضطرُّ الآلافُ من سكّانِ الأحياءِ الفَقيرةِ في المدينةِ مُرغمينَ، إلى التَّعايُشِ مع مُشكلةِ المباني المتهالِكَةِ الآيلةِ للسُّقوطِ رغمَ كلِّ الأخطارِ. و بحسبِ نقابةِ المهندسين في الشّمال، فهناك حوالي ال 400 وحدةٍ سكنيَّةٍ في المدينةِ مهدَّدةٌ بالانهيارِ أو آيلةٍ للسّقوطِ، وتحتاجُ إلى الترميمِ والتَّدعيمِ. و لكن، لا حياةَ لمن تنادي.
فلو كانَ حكّامُ هذا البلدِ يخافونَ على وطَنهم، لما طافَ فسادهُم، و لما فَتَحَت المدرسَةُ أبوابَها لتستقبلَ الطُّلابَ، تحت سقفٍ، لم تُختَبَرْ أهليَّتُهُ، و بدلَ أن يقيهِم من الشَّمسِ و المطرِ، يقتُلُهم…