“قطعةُ سما”، “حبَّةُ لؤلؤٍ” أو “جنَّةُ على الأرضِ”… و غيرُها من الألقابِ التي نسمَعُها او نقرأُها كلَّما ذُكرَ اسمُ “لبنان” لِوصفِ طبيعتِهِ الرّائعةِ و آثارهِ التي تحمِلُ في طيّاتِها تاريخًا عريقًا يدلُّ على العديدِ من الحضاراتِ، و لكن يبقى “طائرُ الفينيق” اللَّقبُ الأشهرُ الذي يقتَرنُ به هذا البلدُ الصَّغيرُ المُترامي على شواطئ المتوسِّطِ.ما هو طائرُ الفينيقِ؟قد تختَلِفُ تسميَتُهُ بين حضارَةٍ و أخرى، من طائرِ الفينيق – phoenix حَسبما يُعرفُ في الميثولوجيا الإغريقيَّة إلى العنقاءِ في التُّراثِ العربيِّ أو سيُمرغُ عند الفرسِ، لكن جميعُها تكادُ تتَّفِقُ على ما يرمُزُ إليهِ.
هو عبارَةٌ عن كائنٍ اسطوريٍّ يحيا من رمادِ احتراقِ جسدِهِ حيثُ يرمُزُ للحريَّةِ و الخُلودِ و القُدرةِ دائمًا على النُّهوضِ من جديدٍ و اجتيازِ الصُّعوباتِ. بينَ الأسطورةِ و الواقعِلا شكَّ أنّ “لبنان الكبير”، و منذُ نشأتِهِ، واجهَ الكثيرَ من التَّحديّاتِ و عانى الكثيرَ من المصاعبِ و المصائبِ، فمن المجاعاتِ الى الأزماتِ الإقتصاديَّةِ، و من النِّزاعاتِ الدّاخليَّةِ إلى الإعتداءاتِ و الحروبِ الخارجيَّةِ، استطاعَ هذا البلدُ و شعبُهُ –كما في الأسطورةِ– النُّهوضَ من تحتِ الرُّكامِ و نفضِ الغبارِ بعدَ كلِّ حريقٍ، و لكن “مش كل مرّة بتسلم الجرّة”.
في الواقعِ، يغرقُ لبنان في السَّنواتِ الأخيرةِ تحتَ عبءِ أزماتٍ خانقَةٍ بسببِ تراكُمِ قضايا الفسادِ لأكثرَ من ثلاثينَ عامًا.
أزماتٌ باتَتْ لا تعدُّ و لا تُحصى تعصِفُ بهذا البلدِ الذي يتأرجحُ على خيطِ الهاويةِ متخبِّطًا ينتظِرُ الخلاصَ أو السُّقوطَ المدوّيَ الذي لا قيامَ من بعدِهِ.
المجتمعُ يتفكّكُ و الخطرُ وجوديّ.
في كيانِ الأحداثِ و الإنهياراتِ المتسارعةِ التي تعصفُ على لبنان منذُ سنواتٍ، يظهرُ جَلِيًّا الواقعُ الخطيرُ الذي و صلَ إليهِ المجتمعُ اللُّبنانيُّ، فقد أظهرَتْ دراسةٌ أجرتْها الشّركةُ “الدّوليَّةُ للمعلوماتِ” بشأنِ اعدادِ المهاجرينَ من لبنان أنّهُ هنالكَ ما يُقاربْ في عامِ ألفانِ وواحد وعشرون التسعة و السّبعون ألفًا و مئة وأربعة وثلاثين شخصًا مقارنَةٍ بـسبعةَعشرَ ألفاً و سبعُمئةٍ وواحدٌ وعشرونَ شخصًا في عامِ ألفانِ وعشرون، أي بنسبةِ ارتفاعٍ تبلغُ الثّلاثمئةٍ وستةٌ واربعونَ بالمئةِ، معظمُهُم من حامِلي الشَّهاداتِ(الأدمغةِ) و اليدِ العاملةِ الشّابَّةِ.
و منَ المتوقَّعِ بحسبِ الخُبراءِ أن ترتفعَ هذه النِّسبة خلالَ العام الحالي. أرقامٌ صادمةٌ تحملُ دلالاتٍ و مؤشِّراتٍ خطيرةٍ سيكونُ لها تأثيرٌ دائمٌ على المجتمعِ اللُّبنانيِّ.
من دونِ أن نغفلَ عن الهِجرةِ الغيرِ الشَّرعيَّةِ في قواربِ الموتِ عبرَ البحرِ و التي استجدَّتْ مؤخرًا و باتت تحصُدُ ارواحَ الكثيرِ من اللُّبنانيينَ الهاربينَ من الموتِ الى الموتِ.هذا عدا عن واقعِ القطاعِ التَّربويِّ الذي يحتَضِرُ على أنقاضِ المدرسةِ الرَّسميَّةِ و الجامعةِ اللُّبنانيَّةِ المتهالكتَينِ في ظلِّ إضراباتِ الأساتذةِ و إهمالِ المعنيّينَ و ما قد يسبِّبُهُ من تسرُّبٍ مدرسيٍّ او جامعيٍّ للطلّابِ،حيثُ أعلنتْ منظَّمةُ “اليونيسيف” في تقريرٍ نشرتهُ في تشرين الثاني ألفانِ وواحد وعشرون حولَ “تفاقُم تأثيراتِ الأزمةِ اللُّبنانيَّةِ على الأطفالِ”، أنَّها أجرتْ تقييمًا يركِّزُ على الطِّفلِ؛ وقد أظهرتِ النَّتائجُ أنّ ثلاثةً من بينِ كلِّ عشرةِ أُسرٍ خفِّضتْ نفقاتُ التَّعليمِ، مشيرةً إلى أنّ “الأزمةَ العميقةَ في لبنان تهدِّدُ حقَّ الأطفالِ الأكثرِ ضعفًا في التَّعليمِ”، ومتوقِّعةً ألا يعودَ الثلاثةُ والسِّتّونَ في المئةِ(أي ما يشكّل 440 ألفًا) من الأطفالِ اللّاجئينَ، وثلاثة وعشرونَ في المئة(أي ما يشكّلُ 260 ألفًا) من الأطفالِ اللُّبنانيينَ، الذين هم في سنِّ الدِّراسةِ، إلى المدرسةِ..
و في السِّياقِ نفسِهِ، يغرَقُ القطاعُ الصّحيُّ المترهِّلُ تحتَ عبءِ الأزمةِ المتثاقلةِ، حيثُ وُضعَ في غرفةِ العنايةِ الفائقةِ كالمريضِ الذي يصارِعُ الموتَ، إذ باتَ يفتقِرُ للإمكانيّاتِ الأساسيَّةِ من مواردَ بشريَّةٌ و معدّاتٍ و أدويةٍ في سبيلِ الصُّمودِ و الإستمرارِ .
و بحسبِ تقديراتِ نقابتيّ الأطبّاءِ و الممرّضينَ، فقد بلغَ النَّزفُ الذي يعانيهِ هذا القطاعُ ذُروتِهِ بُعَيدَ انفجارِ مرفأ بيروت حيثُ هاجرُ حوالي ثلاثة آلافِ طبيبٍ من أصلِ خمسةَ عشرَ ألفًا مُسجَّلينَ في النَّقابةِ بينما هاجرَ حوالي ألفانِ وخسُمئةِ ممرِّضٍ و ممرَّضةٍ تقريبًا من أصلِ ثمانية عشرَ ألفًا من المسجَّلينَ. إنّ كلَّ هذه المؤشراتِ إذا ما دلَّت على شيءٍ فهي تدلُّ على تفكُّكِ القواعدِ و الأُسُسِ التي يقومُ عليها المجتمعُ ما يؤدي إلى تشرذُمِهِ بواقعٍ يَصعُبُ لملمَتُهُ.
يقفُ لبنان اليومَ على مفترقٍ خطيرٍ يرسمُ مستقبلَ أجيالٍ إلى الأمامِ. بالمقابلِ، يتلهّى أصحابُ المسؤوليَّةِ بانقساماتٍ لا تسمَّنُ و لا تغني من جوعٍ، في حين أنَ الوقتَ الدّاهمَ يفرِضُ على اللّبنانيينَ الإتِّحادَ و العملَ من أجلِ إنقاذٍ حقيقيٍّ يضعُ بلدهُم على سكَّةِ الخلاصِ، لعلَّهُ ينهضُ من جديدٍ، كطائرِ الفينيقِ، لنشهدَ قيامةَ وطنٍ.