بقلم : نيللي جهاد كولكو
تدقيق : فاطمة محمّد صالح الموسويّ
فِي خِضمِّ الحياةِ المُعاصِرة، وبينَ إيقاعِهَا السّريعِ وضَجيجِهَا المُستمرّ، نركضُ كلَّ يومٍ فِي سباقٍ لا نعرفُ متَى بدأَ ولا إلَى أينَ ينتَهي، نحملُ همَّ الغدِ قبلَ أنْ يَرحلَ اليَوم، تتبدّلُ الأيامُ والوجُوه، لكنَّ التّعبَ نفسَهُ يرافقُنَا فِي كلِّ خطوَة. يمرُّ بنَا سؤالٌ خفِيّ، لكنَّهُ جَوهريّ: هَل نعيشُ حَقّا، أمْ أنَّنَا فقَط نحاولُ النَّجاة؟
نستيقظُ كلَّ صباحٍ علَى أصواتِ المَسؤوليات، لا علَى نداءِ الشّغَف. نسيرُ بخُطى ثابتةٍ نحوَ أعمالِنَا، نُجاملُ هَذا، ونتحمّلُ ذَاك، نحملُ وجوهاً مُبتسمةً تُخفِي وراءَهَا تعباً عَميقا، ونَمضي فِي الأيامِ كمَن يسيرُ فِي طريقٍ طويلٍ دونَ أنْ يعرفَ وجهتَه. نمارسُ الحياةَ بآليّةٍ صامِتة، دونَ أنْ نشعُرَ بحرارتِهَا أو نكهتِهَا، وكأنَّنَا نُؤدّي واجبَ البقاءِ فحَسب.
العيشُ الحقيقيُّ ليسَ أنْ نتنفّسَ فقَط، بلْ أنْ نشعرَ بكلِّ مَا يمرُّ بنَا. أنْ نتأمّلَ لحظةَ الشّرُوق، ونُصغِي إلَى صوتِ المَطر، ونبتسِمَ بصدقٍ حينَ تلامسُ قلوبَنَا كلمةٌ طيّبَة. أنْ نحزنَ بعمقٍ حينَ يُؤلمُنَا شَيء، ونفرحَ بصدقٍ حينَ يُسعدُنَا آخَر. أنْ نَحيا كمَا نَحن، لا كمَا يُريدُنَا الآخرونَ أنْ نكُون.
كمْ مِن إنسانٍ يلهثُ وراءَ المالِ والمكانةِ والنّفُوذ، لكنَّهُ فِي داخلِهِ يشعرُ بالفَراغ؟ وكمْ مِن آخرٍ بسيطٍ يعيشُ فِي سلامٍ معَ نفسِه، راضٍ بقليلِه، ممتنٌّ لكلِّ لحظةٍ تمُرّ؟ الفرقُ بينَهمَا أنَّ الأوّلَ نَجا منَ الفَقر، أمَّا الثّانِي فعرفَ كيفَ يعِيش. النّجاةُ غريزةٌ زرعَهَا اللهُ فينَا، أمَّا الحياةُ فهِي اختيارٌ وشَجاعة. النّجاةُ أنْ تستَمرّ، والحياةُ أنْ تُحبَّ هَذا الإستِمرار. هِي أنْ تحمِي نفسَكَ منَ الألَم، وأنْ تتعلّمَ كيفَ تُحبَّ رغمَ الوجَع.
الحياةُ لا تُقاسُ بعددِ السِّنين، بلْ بعمقِ اللّحَظات. لا بِمعنى البَقاء، بلْ بِمعنى الوجُود. إنَّنَا حينَ نتوقّفُ عنِ الإحسَاس، نتحوّلُ مِن أحياءٍ إلَى ناجينَ فحَسب. فلنَهدأْ قلِيلا، ولننظُرْ حولَنَا وداخلَنَا. ربّمَا حانَ الوقتُ لنسألَ أنفسَنَا بصِدق: هَل أدركنَا الحَياة .. أمْ لازلنَا نحاولُ فقَط النّجَاة ؟
