في كلّ دولة من العالم تكمن جماعاتٌ غير منظمة تسمى بالجماعات الضاغطةٌ او جماعات المصالح، تتفق في كونها مجموعة من الناس أو من المؤسسات يتواجدون في شكل اتحاد أو جمعية أو أي شكل من أشكال التجمع. وتعمل هذه الجماعات خلف الكواليس من اجل التأثير على السلطة ولعِب دور بارز وفعال في صنعِ واتّخاذ القرارات المصيرية في الدّولة .أمّا في لبنان فقد ظهر نوع آخر يوازي هذه الجماعات بالشكل والتأثير وهي الجماعات المحتكرة.
فمنذ بدايةِ الأزمة ،ولبنانُ يعيشُ حالةً من الفوضى على كافةِ الصُّعد وهذا ما منحَ الكارتيلات المحتكرة العملَ بالخفاء لتلعب دور الجماعات الضّاغطة بالاسلوب ذاته وبالتالي تأثيرها على الحياة المعيشية اليومية للمواطن اللبناني وبسط سيطرتها في السّوق السّوداء واستغلال الوضع المتأزّم ماديّاً واقتصاديّاً للتلاعبِ بالأسعار على هواها بالإضافة الى احتكارها الموادّ الأساسيّة وتخزينها بانتظار رفع الدّعم عنها من أجل كسب أرباحٍ مضاعفةٍ بل أضعافاً مضاعفة.
فقد نصّتِ المادة ٧ من قانون مكافحة الاحتكار والغلاء: “إنّ كلَّ مَن يُخالف أحكام قراراتِ التّسعير أو تحديد نسبِ الأرباح ببيعهِ الموادّ والمنتجات بأكثر من الحدِّ الاعلى المعيّن لها, يعاقَب بالحبسِ من شهرٍ إلى سنةٍ وبغرامةٍ تتراوحُ بين خمس مائةٍ وخمسة الاف ليرة أو بإحدى هاتين العقوبتين، وتضاعَف هذه العقوبة عند التّكرار.”
وبِمَوجِبِ هذه المادّةِ عملتْ بعضُ الجهاتِ المختصّة على مُلاحقة المحتكرين وكشف أساليبهم الملتوية الخبيثة والغير قانونية وكانت في كلِّ مرّةٍ تنشرُ للرّأي العام مشاهدَ موثّقةً بالصُّور والفيديوهات مداهمَتها لمحتكري النفط ومستودعات الموادّ الغذائيّة والطبية، والّتي تؤكّدُ فظاعةَ وخبثَ هذه الفئةِ الطّاغيةِ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى فقد أغشى الطّمعُ أعينَهم وازال الجشعُ الرّأفةَ من قلوبهم وغيّب الخُبثُ صوتَ الضّميرِ عن وِجدانهم حتّى وصلَ بهم الأمرُ إلى العبثِ بأرواحِ وسلامة وأمن أهلهم من ذات البلد.
فهذه اللّوبيّات أو ما يُسمّى بالكارتيلات الاحتكاريّة الغوغائيّة كان لها الدّور الأبرز في ارتفاعِ الأسعارِ وتدهورِ الوضعِ الاقتصاديّ وبالتّالي مساهمتها في صنع القرار عن طريق التّلاعب بسعر الصرف وتأثيره على حياة المواطن بصورة مباشرة والّتي باتت رهناً بأيدي الفئات المحتكرة والّتي من المستحيل أن تكون من صنف البشر فالإنسانيّةُ براءٌ منهم ومن أفعالهم.
فَكم من عائلةٍ فقدَت أحدَ أفرادِها لعدمِ وجودِ الدّواءِ، وكم من عاجزٍ فقدَ حياتهُ وهو ينتظرُ دوره على محطّاتِ الوقود وكم من مولودٍ عانى من فِقدان الحليب الّذي هو المصدرُ الأساسيّ لسدِّ جوعه، وكم من مريضٍ توقّفت رئتاه عن العمل لانقطاعِ الأوكسجين عنها وحاجته المُلّحّة للكهرباء، وكَم من فقيرٍ عانى من نقص الفيتامينات لعدم قدرته على تأمين الغذاء الكامل وكم وكم وكم ……
فلم ننسَ عائلة حويلا
ولم ننسَ شهداء عكّار
ولم ننسَ الطّفلة جوري الّتي تُوفّيت بين يدي والديها لعجزهما عن تأمين الدّواء لطفلتهما بعد إصابتها بالتهاب رئويّ.
ولم ننسَ الخلافاتِ المتنقّلةَ على محطّاتِ الوقود والّتي راح ضحيَّتَها العشرات من الشُّبّان.
ولَم ولم ولم …ولكن إلى متى؟؟؟
تعدّدتِ الأسبابُ والموتُ واحد، لكنّ أسباب الموت في لبنان قاهرة، لأنّها ناجمةٌ عن إهمالٍ وتقصير وتراكم المآسي الّتي جعلت من العيش في ظروفٍ صعبة مغامرةً غيرَ محسوبةِ العواقب.
نعم، فمئاتُ المواطنينَ وَجدوا أنفسَهم في الأزمةِ الأخيرةِ ضحايا الاحتكار، فاليوم يموتُ اللّبنانيّون لافتقارهم لأبسطِ متطلّباتِ العيش الكريم، مع الانهيار الاقتصاديّ الّذي انهارت معه المنظومةُ الصّحيّة، وتعطّلت سُبلُ الحياة، وبات الحصول على أمورٍ كانت تُعتبر «تحصيل حاصل» مَشقّة.
وتبقى الإشارةُ إلى أنّ جميعَ الأديانِ السّماوية حرّمتِ الاحتكارَ ونبذتِ المُحتكرين. فبرأي أهل الحكمة والوعي وبنظر أصحاب الضمير المُحتكر لا دينَ لهُ ولا مذهب ولا طائفة ومن هذا المنطلق يجب محاسبته ومعاقبته بأقسى العقوبات حتى يصبح عبرة لمن لا يعتبر.
