بقلم علي رضوان سعيد
تدقيق : حسن علي جواد
فِي لُبنان، إنتهَتِ الحَربُ العسكريَّةُ معَ وقفِ إطلاقِ النَّار. هدأَت وتِيرةُ القَصفِ و خفَتَ دويُّ المدافِع، لكنَّ معركةً مِن نوعٍ آخرٍ إنطَلقت،و هِيَ التّداعياتُ النّفسيّةُ للحَربِ علَى النَّاس. لقَد خلَّفتِ الحَربُ وراءَهَا جِراحاً نفسِيّةً مُزمنةً أعمقَ مِن رُكامِ المَبانِي، صِامتةً لكنَّهَا حيَّة، تَظهرُ كالتّجاعيدِ على وُجوهِ النَّاس. فمَا الأثَرُ الحقيقِيُّ للحَربِ على الصَّحّةِ النّفسيّةِ للُّبنانيّين؟ وهلِ العِلاجُ النّفسيُّ فِي وقتِنَا الحَالِي أولَويّةٌ أمْ ترَفٌ مؤجَّل؟
صَدماتٌ مُتتاليةٌّ تعرّضَ لَهَا المُواطِنُ اللُّبنانيُّ خِلالَ الأعوَامِ الفَائتةِ معَ الأزمَاتِ والكَوارثِ الَّتي تعاقبَتْ عَليهِ وصُولاً إلَى الحَربِ الأخِيرةِ المُدمِّرَة. يُحكَى كثيراً عَنْ قُدرةِ المُواطنِ اللّبنانِيِّ الفريدَةِ علَى الصُّمودِ والتّأقلُمِ و تَخطِّي الظُّروفِ الصَّعبَة، ولَكن يتساءَلُ كثيرُونَ مَا إنْ كانَتِ المِيزةُ المُجتَمعيّةُ هذهِ لَا تزالُ فَعّالةً بعدَ كُلِّ الضّغوطاتِ و الظّروفِ النّفسيّةِ و الذِّهنيّةِ الَّتي واجهَتِ اللُّبنانِيّين.
فِي هَذا السِّياق، تأتِي دراسَةٌ حديثَةٌ أجرَاهَا البروفِيسُور “إيلِي كرَم” مُؤسّسُ جَمعيّةِ “إدرَاك” بِالتّعاوُنِ مَعَ جامِعةِ “هَارفِرد” لتُظهِرَ أنَّ ثُلثي اللُّبنانِيّينَ يُعانُونَ مِن إضّطِراباتٍ نفسِيّةٍ علَى إختِلافِ أنواعِهِا وبِحسبِ الدِّراسةِ نفسِهَا فَإنَّ ٥٠٪ مِنَ المُشاركينَ يُواجهونَ حَالاتٍ مِنَ القلقِ والإكتِئابِ و إضّطِرابِ مَا بعدَ الصَّدمةِ خَاصّةً الأطفالُ و المُراهِقون . يُشدِّدُ كرَم فِي حدِيثٍ خَاصٍّ لَهُ علَى أنَّ هذهِ الأرقامَ خَطيرةٌ و لَا يُمكنُ الإستِهانةُ بِهَا مُوضِحاً أنَّ قِلّةً قَليلةً فقَط مِنْ هَؤلاءِ يحصُلونَ علَى المُتابعةِ النَّفسِيّةِ اللّازِمَة.
إستخلاصاً مِمَّا سَبَق، نصِلُ إلَى حَقيقةِ أنَّ الصِّحّةَ النّفسِيّةَ فِي لُبنانَ مَا زالَتْ تُعامَلُ كترفٍ وليسَ كأولَويَّة. يَعزُو كثيرُونُ هَذهِ العَادةَ إلَى جُملةٍ مِنَ الأسبابِ الشّخصِيّةِ و الإجتِماعيّةِ و الإقتِصاديَّة. مِنهَا قِلّةُ المَراكزِ المُتخصّصةِ و إرتِفاعُ كِلفةِ العلاجِ فِي ظِلِّ غِيابِ التَّغطِيةِ الصِّحيّةِ الشَّاملةِ مَا يَجعلُ العِلاجَ النّفسِيَّ تحَدِّياً عِندَ أغلبِ النَّاس. إلَّا أنَّ السَّببَ الأَهمَّ والأسوأَ علَى حَدٍّ سَواءٍ هوَ النّمطيَّةُ السّلبِيّةُ الَّتي جَعلَت مِنْ فِكرةِ “الذَّهابِ إلَى طَبيبٍ نَفسيٍّ” وَصمةَ عَارٍ أو شائِبةً تُعيبُ مَن يَحذُو هَكذا حَذوةً و تصوِّرُهُ كمُختلٍّ عقليٍّ لَا كإنسانٍ مُرهَق، مَا يَدفعُ الفردَ نحوَ الكِتمانِ و عَدمِ الإعتِرافِ بِحاجَتهِ للدَّعم.
فِي هذَا الإطَار، لَا شكَّ أنَّ مُواجَهةَ أزمةٍ بهذَا العُمقِ تتَطلَّبُ مَجمُوعةً مِنَ الخطُواتِ الحقيقيَّةِ والّتِي يَجبُ أنْ تَبدأَ بِالإعتِراف. و لَا يَتمُّ ذَلكَ إلَّا عَبرَ خَلقِ الوَعيِ الكَافِي للخُروجِ مِن حلَقةِ “العَيبِ” الفَارغةِ كونَهَا العَائِقُ الأَساسِيُّ أمَامَ طَلبِ الدَّعمِ النّفسِي. إلَى جَانبِ ذلِك، هُناكَ حَاجةٌ مُلِحّةُ إلَى إدخالِ الصّحّةِ النَّفسيَّةِ فِي النِّظامِ الصِّحيِّ العامِّ و دَعمِ المَراكِزِ المُتخصّصةِ عبرَ التَّمويلِ و التَّدريبِ لتَدارُكِ سِيناريوهَاتٍ أسوَأ.
لَا يحمِلُ اللُّبنانيُّ الحَربَ فِي ثَنايَا ذَاكرتِهِ فَقط، بَلْ فِي جَسدِهِ أيضاً و فِي نومِهِ المُتقطِّعِ و خوفِهِ مِنَ الغَد. و لَعلَّ مَا قَدْ يَغفلُ عنهُ الجَميع، أَنَّ ترمِيمَ مَا تكسَّرَ فِي نَفسِ كُلِّ فردٍ مِنَّا مُوازٍ لإعَادةِ إعمارِ الحَجر، و يَبقَى السُّؤال، أليسَ مِنَ الصَّوابِ أن نعترِفَ بِأنّنَا كُلَّنَا جَرحَى، حَتَّى و إنْ لَمْ نكُنْ علَى الجبهَةِ الأمَامِيَّة؟