بقلم:ريان إبراهيم نجم
تدقيق: هادي محمود نصّار
فِي عَصرٍ أَصبَحَت فِيهِ المَظاهِر لُغَةَ التَّواصُلِ الأُولَى، وَصارَتِ الكَلِماتُ تُصاغُ بِمَهارَةٍ تُفوقُ صِدقَ المَشاعِر، تاهَت الكَثيرُ مِنَ المَفاهِيم، وَتَقلَّصَت مَساحاتُ الصِّدق، حَتّى غَدا العُثورُ عَلى صَديقٍ حَقيقيٍّ أَشبَهَ بِاكتِشافِ نَبعٍ مِنَ الماءِ فِي صَحراءٍ قاحِلَة… بَل أَقرَبَ إِلى المُعجِزَة.
لَم تَعُدِ الصَّداقة، كَما عَرَفناها يَوما، تِلكَ العَلاقَة الَّتي تَنمو بِهُدوء، وَتَمتَدُّ جُذورُها فِي لَحظاتِ الصَّمتِ قَبلَ الحَديث، بَل باتَت عَلاقَةً هَشَّة، سَريعَةَ التَّكَوُّن، وَسَريعَةَ الزَّوال. وَلَكِن، هَل ما زالَ الإِنسانُ فِي هَذا الواقِعِ المُتَسارِع قادِراً عَلى التَّمييزِ بَينَ مَن يُرافِقُهُ حُبّا، وَمَن يُشارِكُهُ الطَّريق طَلَباً لِمَنفَعَة مُؤقَّتَة؟
لِلصَّداقةِ الحَقيقيَّةِ آثارٌ عَميقَة تَنعَكِسُ إِيجاباً عَلى حَياةِ الإِنسانِ النَّفسيَّة وَالاِجتِماعيَّة، فَوُجودُ شَخصٍ يُصغي دُونَ حُكمٍ عَلَيك، وَيَقِفُ إِلى جانِبِك دُونَ مُقابِل، وَيُشعِرُكَ بِأَنَّكَ مَرهِيّ حَتّى فِي أَسوَء حالَاتِك، هُوَ الصَّديقُ الحَقيقي. وَوِفقاً لِلدِّراسات، فَإِنَّ وُجودَ صَديقٍ وَفِيّ فِي حَياةِ الإِنسانِ يُسهِم فِي تَخفيفِ الضُّغوطات، وَيُقلِّلُ نِسبَةَ الاِكتِئاب، كَما وَيُعَزِّز القُدرَة عَلى اتِّخاذِ قَراراتٍ سَليمَة.
أَمَّا فِي المُقابِل، فَإِنَّ صَديقَ المَنفَعَة يُعتَبَر مِن أَكثَرِ الشَّخصيّاتِ الَّتي قَد تَترُكُ أَثَراً سَلبِيّاً فِي حَياةِ الإِنسان، وَغالِباً ما يُؤدّي الاِرتِباطُ بِمِثلِ هَذا النَّوعِ مِنَ الأَصدِقاءِ إِلى سِلسِلَةٍ مِن خَيباتِ الأَمل، وَضَعفِ الثِّقَة، وَتَدهوُرِ العَلاقاتِ الاِجتِماعيَّة. فَهَذِهِ الفِئَةُ مِنَ الأَصدِقاءِ لا تَحضُرُ إِلّا عِندَ المَنفَعَة، وَلا تُبدِي أَيَّ اِهتِمامٍ بِمَشاعِرِ الآخَرين وَاحتِياجاتِهِم، بَل وَتَضَعُ مَصالِحَها الخَاصَّة فَوقَ كُلِّ اعتِبار. كَما أَنَّ صَديقَ المَنفَعَة يُوَجِّه صاحِبَهُ نَحوَ قَراراتٍ خَاطِئَة، مُستَغِلّاً ثِقَتَه، ساعِياً إِلى تَحقيقِ مَكاسِب شَخصيَّة.
فِي الخِتام، إِنَّ الصَّداقةَ لَيسَت مُجرَّدَ عَلاقَة عابِرَة، بَل هِيَ مَسؤوليَّة، وَتَبادُل لِلأَفكار وَالآراء. وَإِنَّ مَقولَة “الصَّديقُ ثُمَّ الطَّريق” تُجَسِّد وَعياً عَميقاً بِأَهمِّيَّةِ وُجودِ صَديقٍ حَقيقيّ يُعِينُ عَلى مَشَقّاتِ الحَياة، وَيَكونُ السَّندَ الأَوَّل فِي أَصعَبِ الأَوقات. لِذا مِنَ الضَّرورِيِّ التَّأنّي فِي اختِيارِ الأَصدِقاء، وَالحِرصُ دائِماً عَلى مُرافَقَةِ أَصحابِ الأَخلاقِ العالِيَة، فهؤلاءِ لَهُم دَورٌ كَبيرٌ فِي صَقلِ الشَّخصيَّةِ وَتَوجِيهِ الإِنسانِ نَحوَ الأَفضَل.
وَفِي ظِلِّ العَصرِ الرَّقمِيّ، أَصبَحَتِ الصَّداقة أَكثَرَ تَعقِيداً وَتَداخُلا، فَقَد سَهَّلَت وَسائِلُ التَّواصُلِ الاِجتِماعيِّ التَّعارُف، لَكِنَّها فِي الوَقتِ عَينِهِ غَيَّبَتِ المَعاييرَ الحَقيقيَّةَ لِلصَّداقة. فَهَل ما زالَت صَداقاتُنا تَحمِلُ المَعنى الحَقيقيّ؟ أَم أَصبَحَت مُجرَّدَ تَواصُل وَهمِيّ؟