بقلم: علي رضوان سعيّد
تدقيق: فاطمة محمّد صالح الموسويّ
لَم يَعُدِ الهاتِفُ الذَّكِيُّ أداةً للتَّواصُلِ والتَّرفيهِ فِي حَياتِنا اليَوميَّةِ فَحَسب، بَل تَحَوَّلَ إِلى دَفتَرِ مُذَكَّراتِنا، خِزانَةِ صُوَرِنا، وأَرشيفِ عَلاقاتِنا الإِجتِماعيَّة. وَمَع كُلِّ تَطبيقٍ جَديدٍ نُحَمِّلُه، نَظُنُّ أَنَّنا نَحصُلُ عَلى خِدمَةٍ مَجّانِيَّةٍ تُسَهِّلُ حَياتَنا. لَكِنَّ الحَقيقَةَ الَّتي خَبِرَها العالَمُ مُنذُ سَنَوات أَنَّهُ لا شَيءَ مَجّانِيّاً فِي الفَضاءِ الرَّقْمِيّ. ثَمَّةَ ثَمَنٌ خَفِيٌّ نَدْفَعُه، وغَالِباً ما يَكونُ أَغلى مِمّا نَتَوَقَّع. فَهَل ما زِلنا نَملِكُ حَقّاً أَسرارَنا، بَياناتِنا الشَّخصِيَّةَ أَو حَتّى خُصوصِيَّتَنا فِي عَصرِ التَّطبيقاتِ المَجّانِيَّة؟
التَّطبيقاتُ المَجّانِيَّةُ لا تَطلُبُ مِنكَ المال، لَكِنَّها تَطلُبُ ما هُو أَثمَن، الوُصولُ إِلى تَفاصيلِ حَياتِك. إِذ يَكفِي أَن نُراجِعَ الأُذوناتِ الَّتي يَطلُبُها أَيُّ تَطبيقٍ لِنَكتَشِفَ حَجمَ هذِه المُفارَقَة. عَلى سَبيلِ المِثال، دائِماً ما نُصادِفُ تَطبيقَ لُعبَةٍ قَد يَطلُبُ مَوقِعَكَ الجُغرافِيّ، تَطبيقاً لِتَعديلِ الصُّوَر قَد يَطلُبُ الوُصولَ إِلى رَسائِلِكَ أَو لائِحَةِ أَصدِقائِك، وَدونَ ذلِك، الكَثيرُ مِن الأَمثِلَةِ الأُخرى. هكَذا تُجمَعُ البَياناتُ لِتَتَحَوَّلَ إِلى مادَّةٍ ثَمِينَةٍ تُحَلَّلُ وَتُستَخدَمُ وَحَتّى تُباعُ لِشَرِكاتٍ خارِجِيَّةٍ دونَ أَن نُدرِكَ حَجمَ تَأثيرِها.
قانونِيّا، مُعظَمُ التَّطبيقاتِ تَضعُ أَمامَ المُستَخدِمينَ وَثائِقَ طَويلَةً وَمُعَقَّدَةً تَحتَ مُسمّى شُروطِ الاستِخدام، يَعرِفُ المُطَوِّرونَ مُسبَقاً أَنَّ الغالبِيَّةَ لَن يَقرَؤوها. وبِمُجرَّدِ أَن يَضغَطَ المُستَخدِمُ عَلى زِرِّ “مُوافِق”، يُمَنِّحُ التَّطبيقَ حَقّاً شِبهَ مُطلَقٍ فِي جَمعِ البَيانات، حَتّى لَو لَم يَكُن مُدرِكاً لِنَوعِها أَو لِحَجمِها أَو لِطُرُقِ استِغلالِها لاحِقا. فِي لُبنان، ظَهَرَ مِثالٌ واضِحٌ خِلالَ جائِحَةِ كُورونا مَع تَطبيقِ “Ma3an” التّابِعِ لِوِزارَةِ الصِّحَّة، الَّذي صُمِّمَ لِتَتَبُّعِ المُخالِطين. وَرَغمَ أَهمِّيَّتِهِ الصِّحِّيَّة، فَقَد أَثارَ جَدَلاً واسِعاً بِسَبَبِ الثَّغَراتِ الأَمنِيَّةِ الَّتي وُجِدَت فِيهِ وَطَريقَةِ تَعامُلِهِ مَع بَياناتِ المُستَخدِمين، إِذ بَدا أَنَّهُ يَجمَعُ مَعطَياتٍ تَفوقُ حاجَتَهُ الفِعليَّةَ ويُخَزِّنُها مِن دونِ مَعاييرِ حِمايَةٍ كافِيَة.
هذِه الحالَةُ كَشَفَت ضَعفَ الإِطارِ القانونِيِّ والرَّقابِيِّ فِي البَلَد، إِذ إِنَّ القانونَ 81/2018 المُتَعَلِّقَ بِالمُعامَلاتِ الإِلكتُرونِيَّةِ وَحِمايَةِ البَياناتِ الشَّخصِيَّةِ لا يُقَدِّمُ آليّاتٍ تَنفيذِيَّةٍ صارِمَة، وَلا يَضمَنُ رِقابَةً فِعليَّةً عَلى كَيفِيَّةِ اِستِخدامِ البَيانات. هَذا هُو جَوهَرُ المُشكِلَة، قانونٌ مَوجُودٌ عَلى الوَرَق، لَكِنَّهُ شِبهُ غائِبٍ فِي التَّطبيق، ما يَترُكُ المُواطِنَ مَكشوفاً أَمامَ أَيِّ تَطبيقٍ أَو مِنصَّةٍ رَقمِيَّة. وَهَذا ما عَبَّرَ عَنهُ بِوُضوح “محمد المغبط”مُديرُ مَكتَبِ المَرصَدِ الأورومتوسَّطِيِّ فِي لُبنان، حِينَ قالَ إِنَّ القانونَ “فَشِلَ مُنذُ إِقرارهِ فِي حِمايَةِ حُقوقِ المُواطِنينَ فِي الخُصوصِيَّة”.
الأسوَأُ أَنَّ غِيابَ الوَعيِ المُجتَمَعِيِّ يَجعَلُ المُستَخدِمَ يُسَلِّمُ بَياناتِهِ بِسُهولَة، وَكَأَنَّها بِلا قِيمَة. وَبِالتَّالي فَإِنَّ المَسأَلَةَ لَيسَت تِقنِيَّةً فَحَسب، بَل هِيَ ثَقافِيَّةٌ أَيضا. الحِمايَةُ هُنا تَبدَأُ بِالوَعي، فَعَلى المُستَخدِمِ قِراءَةُ الأُذوناتِ بِعِنايَةٍ قَبلَ تَثبِيتِ أَيِّ تَطبيق، وَاستِخدامُ التَّطبيقاتِ مِن مَصادِرَ مَوثوقَة. فَضلاً عَن تَفعِيلِ إِعداداتِ الخُصوصِيَّةِ عَلى الهَواتِفِ وَالتَّفكيرِ مَرَّتَينِ قَبلَ مُشارَكَةِ المَعلوماتِ الحَسّاسَةِ مِثلَ المَوقِعِ وَجِهاتِ الاِتِّصال، ولابُدَّ أَيضاً مِن مُراجَعَةِ سِياساتِ الخُصوصِيَّةِ بِشَكلٍ دَورِيٍّ لِلتَّأكُّدِ مِن أَيِّ تَغييراتٍ جَديدَة. هذِهِ الإِجراءاتُ قَد تَبدو بَسيطَة، لَكِنَّها تُعِيدُ لَنا بَعضَ السَّيطَرَةِ عَلى حَياتِنا الرَّقمِيَّةِ وَتُقَلِّلُ مِن احتِمالِ اِستِغلالِ مَعلوماتِنا دونَ عِلمِنا.
فِي النِّهايَة، التَّطبيقاتُ المَجّانِيَّةُ لَيسَت مَجّانِيَّةً حَقّا. كُلُّ ضَغطَةِ زِرٍّ “مُوافِق” تَحمِلُ ثَمناً خَفِيّا، غالِباً ما نَكتَشِفُهُ بَعدَ فَواتِ الأَوان. التِّكنُولوجيا صُمِّمَت لِتَسْهِيلِ حَياتِنا، لَكِنَّ حُرِّيَّةَ اختِياراتِنا وخُصوصِيَّتَنا مَسؤُولِيَّتُنا نَحنُ أَوَّلا. فَهَل سَنَتَصَرَّفُ كأفرادٍ وَمُجتَمَعاتٍ لِحِمايَةِ خُصوصِيَّتِنا؟ أَم نَرضى بِبَقائِها سِلعَةً قابِلَةً لِلبَيع؟