الذّكاءُ الاصطناعيُّ يغزُو الفنَّ اللُّبنانِيّ، فهَل تبتلعُ الخوارزميّاتُ أصالتَهُ؟

الذّكاءُ الاصطناعيُّ يغزُو الفنَّ اللُّبنانِيّ، فهَل تبتلعُ الخوارزميّاتُ أصالتَهُ؟

​بقلم: علي رضوان سعيّد
تدقيق: هادي محمود نصّار

​فِي مقهَى صغيرٍ جنوبَ العاصمَةِ بيرُوت، يجلسُ سمير، فنّانٌ تشكيلِيٌّ لبنانِيٌّ شَابّ. لا يمسِكُ سمير هذهِ المرّةَ بريشةٍ زيتيَّة، بَل يحدِّقُ فِي شاشةِ حاسوبِه، يدخلُ أمراً نصّياً بسيطاً للحصولِ علَى لوحةٍ تمثِّلُ صمودَ الجَنوبيّين، وفِي غضونِ ثوانٍ تتدفّقُ عشراتُ الصّورِ الجاهزَةِ تقرِيبا. هَذا المشهدُ ليسَ مِن وحيِ الخيَال، بَل هوَ الواقعُ الجديدُ الّذي يفرضُ نفسهُ علَى المشهدِ الإبداعِيِّ فِي لُبنان. ففِي بلدٍ تتناوبُ فيهِ الأزمَات، يجدُ الفنُّ اللّبنانِيُّ فِي الذّكاءِ الاصطناعيِّ محفّزاً جديداً لا يرحَم. لَم يعُد السُّؤالُ اليومَ مَا إذَا كانَ الذَّكاءُ الاصطناعِيُّ سيغيّرُ الفنَّ اللُّبنانيّ، بَل كيفَ سيستخدمُهُ الفنّانونَ اللّبنانيّونَ ليخبرُوا قصصهُمُ الخاصّةَ فِي هَذا العصرِ الرقمِيّ؟

يقولُ سمير: “​لقَد كانَ الفنّانُ اللّبنانِيّ، فِي ظلِّ الأزمَة، محاصراً بينَ شحِّ المواردِ وارتفاعِ تكلفةِ الإنتَاج، الّتي أصبحَت تدفعُ الكثيرَ مِن الفنانينَ والمبدعينَ إلى الهجرةِ أو التّخلِّي عَن مشاريعهِمْ الكُبرى”. وهُنا يبرزُ الذّكاءُ الاصطناعيّ كقوّةِ مزدوجَة، فمِن ناحيةٍ يتيحُ توليدَ مقاطعِ الفيديُو المعقّدَة ، وتصميمَ مجموعاتِ الأزيَاء، أو حتَّى هندسةَ وتخطيطَ المشاريعِ الضّخمَة، بتكلفةٍ زهيدةٍ مقارنةً بالإنتاجِ التقليدِيِّ الباهِظ. هَذا يوفِّرُ متنفّساً للجيلِ المبدعِ الّذي لا يملكُ التّموِيل، حيثُ تحوّلَتْ القيمةُ مِن امتلاكِ الأدواتِ باهظةِ الثّمنِ إلى امتلاكِ الفكرةِ والقدرةِ علَى صياغةِ الأوامرِ بذكاءٍ وابتكَار.

مِن ناحيةٍ أخرَى، يثيرُ الذّكاءُ الاصطناعِيُّ الجدلَ العميقَ حولَ مفهومِ الأصالَةِ والتّوثِيق. ففِي الوقتِ الّذي وفّرَ فيهِ سرعةً خياليَّةً فِي الإنتَاج، فرضَ أيضاً تحدّياتٍ وجوديّةٍ علَى المُبدعِ اللُّبنانيّ، فكيفَ يمكنُ لآلةٍ أنْ تُحاكِي عاطفةَ النّاسِ مثلاً أو حنينَ الأغنيةِ الطّربيَّة؟ هَذا التّناقضُ جعلَ الإبداعَ اللّبنانيَّ اليَوم، يعيشُ حالةَ شدٍّ وجذبٍ بينَ السّرعَةِ تقنِيّاً والحاجةِ للحفاظِ علَى الرّوحِ البشريَّةِ الفريدَة.

​فِي القطاعِ المُوسيقِيّ، بدأتِ الموجةُ تضرِبُ بقوَّة، وشهِدنَا توظيفاً لافتاً لأدواتِ الذّكاءِ الاصطناعِيِّ فِي بعضِ العروضِ الحيَّة، أو استخدامِ الخوارزميَّاتِ لتسريعِ عمليَّةِ النّشِر، وهُو مَا يعتبرُ ميزةً ثمينةً فِي السّوقِ العالمِيِّ الّذي أصبحَ يتّسمُ بالسُّرعَة. لكنَّ التّحدِّي الأكبرَ يكمنُ فِي أصالةِ الصَّوت، هَل يمكنُ لخوارزميّةٍ أن تُحاكِي دفءَ صوتِ فيروزَ أو عظمةَ لحنِ وديع الصّافي مثلاً؟ الجدلُ هُنا محتدمٌ بينَ جيلٍ يعتقدُ أنّ الذكاءَ الاصطناعيَّ يمكنُ أن يكونَ موزِّعاً موسيقيّاً سريعاً وكافياً لتوليدِ نغمَة، وجيلٍ يصرُّ علَى أنَّ الفنَّ الحقيقيَّ يتطلّبُ روحاً بشريّةً عاشَتْ تجاربَ الاغترابِ أو الشّوقِ أو الفرحِ أو الحزنِ الحقيقيَّة. وفِي هَذا السّياق، يبقَى الإبداعُ البشريُّ هُو المعيارُ للحكمِ علَى قيمةِ العمَل.

​لكِن مَا يثيرُ القلقَ فعلاً هُو غيابُ الإطارِ القانونيِّ المُواكِب. بينمَا يتطوّرُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ بسرعَة، تظلُّ القوانينُ اللّبنانيّةُ ومِن ضُمنِها قانونُ حمايةِ الملكيَّةِ الفكريَّة، غيرَ قادرةٍ علَى مجاراةِ هَذا التّطوُّر. وهُنا لابدَّ مِن طرحِ سؤالٍ حولَ مَن يمتلكُ العملَ الفنّيَّ الّذِي تولِّدهُ الآلَة، هَل هُو الفنّانُ الّذي كتبَ الأمْر؟ أمْ الشّركةُ الّتي درَّبتِ النّموذَج؟ القانونُ اللّبنانِيُّ حاليّاً يعرّفُ المؤلّفَ بأنّهُ الشّخصُ الطّبيعيُّ الّذي يبتكرُ عملاً ما، وبالتّالِي يستبعدُ الآلَة. هَذا الغموضُ يفتحُ البابَ أمامَ فوضَى فِي حقوقِ الملكيَّةِ الفكريَّة، ويهدّدُ إرثَ الفنَّانِين. المَطلوبُ اليومَ هُو تحرّكٌ تشريعيٌّ عاجِل، لا لمكافحةِ التّكنولوجيَا بلْ لتنظيمِهَا وحمايةِ المُبدعِين.

​فِي المحصِّلَة، لا شكَّ بأنَّ الذّكاءَ الاصطناعيَّ يَبرعُ فِي التّقليدِ والتّركِيب، وبالتّالِي يجبُ أنْ يتحوّلَ إلى مساعدٍ فِي أيدي اللُّبنانيّينَ وليسَ بديلاً كامِلا. يجبُ علَى الجامعاتِ والمعاهدِ احتضانُ هذهِ الأدواتِ فِي المناهِج، لتعليمِ الجيلِ الجديدِ كيفَ يسيطرُ علَى الآلةِ ويطوّعُهَا لخدمةِ رؤيتِهِ الخاصَّة، لا أنْ تسيطرَ علَيه. إنَّ الابتكارَ اللُّبنانيَّ بقوّتهِ وتاريخِهِ لَن يتلاشَى. لكنّهُ يواجهُ امتحاناً صعباً: كيفَ نحوّلُ تكنولوجِيا سريعةٍ ومحايدةٍ إلَى أداةٍ لخدمةِ قصصِنَا الخاصَّة، قَبل أن تحوِّلنا هِي إلى مجرَّدِ مُشغّلينَ لأوامرِهَا؟