في بَلَدٍ اعْتادَ فيهِ المُواطِنونَ على الأَزَماتِ المُتَتالِيَةِ، الَّتي تَبْدَأُ بِانْهِيارٍ تاريخيٍّ لِسِعْرِ صَرْفِ العُمْلَةِ الوَطَنِيَّةِ، وَ لا تَنْتَهي بِأَزَماتِ الكَهْرَباءِ وَ الإِنْتَرْنِتِّ وَ التَّعْليمِ، وَ الزَّحْمَةِ في الدَّوائِرِ الرَّسْمِيَّةِ وَ تَأْخيرِ المُعامَلاتِ… وَ في ظِلِّ غِيابِ الخُطَطِ الجَدِّيَّةِ وَ انْعِدامِ الحُلولِ، تُطِلُّ التِّكْنولوجْيا كَخَشَبَةِ الخلاصِ لِبَلَدٍ يَغْرَقُ في وُحولِ أَزَماتِهِ وَ الحَلِّ الأَمْثَلِ لِلْعَديدِ مِنْ مَشاكِلِ اللُّبْنانِيّينَ.
لا شَكَّ بِأَنَّ أَساسَ الفَسادِ هُوَ العامِلُ البَشَرِيُّ أَوَّلاً، فَدائِماً ما يُقَدِّمُ العُمّالُ أَوِ المُوَظَّفينَ نَوْعاً مِنَ الأَفْضَلِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ عَلى حِسابِ إِداراتِهِم. كَيْفَ هُوَ الحَالُ إِذاً في الإِداراتِ العامَّةِ اللُّبْنانِيَّةِ حَيْثُ يَسْتَشْري الفَسادُ وَ تَكْثُرُ المَحْسوبِيّاتُ؟ مِنْ هُنا يَنْطَلِقُ خُبَراءُ التَّحَوُّلِ الرَّقْمِيِّ في نَظَرِيَّتِهِمْ إِلى أَنَّهُ في مَجالِ التِّكْنولوجْيا يَتِمُّ اتِّباعِ القَوانينِ فَقَطْ لا غَيْرُ، إِذْ يَتَقَلَّصُ الاعْتِمادُ عَلى الأَشْخاصِ وَ بِالتّالي لَنْ يَبْقَ لِلْفَسادِ وُجوداً.
في هذا السِّياقِ يُمْكِنُ الحَديثُ عَنْ العَديدِ مِنَ الحُلولِ التٍّكْنولوجِيَّةِ الآنِيَّةِ الَّتي تَسْتَطيعُ أَنْ تَحُلَّ الكَثيرَ مِنَ المَشاكِلِ اليَوْمِيَّةِ وَ المُسْتَعْجَلَةِ الَّتي تُكَبِّلُ المُواطِنَ اللُّبْنانِيَ. عَلى صَعيدِ القِطاعِ التَّعْليميِّ مَثَلاً، وَ مَعَ ارْتِفاعِ تَكاليفِ النَّقْلِ، الكَهْرَباءِ، وَ حَتّى الكُتُبِ المَدْرَسِيَّةِ، تَبْرُزُ اسْتراتيجِيَّةُ التَّعْليمِ عَنْ بُعْدٍ كَحَلٍّ مَوْضِعِيٍّ مُؤَقَّتٍ. قَدْ يَظُنُّ الكَثيرونَ أَنَّها تَحْتاجُ إِلى الإِنْتَرْنِتِّ، وَ لكِنْ لَيْسَ بِالضَّرورَةِ أَبَداً. فَبِحَسَبِ الخُبَراءِ هُناكَ عِدَّةُ طُرُقٍ يُمْكِنُ اعْتِمادُها كَتَسْجيلِ المُحاضَراتِ وَ نَقْلِها عَلى أَقْراصٍ مُدْمَجَةٍ أَوْ فَتْحِ مَجالٍ للطُّلابِ لِتَحْميلِ الدُّروسِ بِأَيِّ
وَقْتٍ كانَ بِدونِ إِلْزامِهِمْ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ. أَمّا تَكْلِفَةُ الكُتُبِ يُمْكِنُ اخْتِصارُها عَبْرَ شِراءِ الكُتُبِ الالْكِتْرونِيَّةِ وَ هِيَ أَوْفَرُ بِكَثيرٍ مِنَ الكُتُبِ الوَرَقِيَّةِ. هذِهِ الاسْتراتيجِيّاتِ سَتُساعِدُ عَلى تَخْفيفِ وَطْأَةِ أَزْمَةِ التَّعْليمِ في لُبْنانَ وَلكِنَّنا بِحاجَةٍ لِخُطَّةٍ تَعْليمِيَّةٍ كامِلَةٍ.
وَ عَلَى صَعِيدِ تفعيلِ عَمَلِ موظّفي القطاعِ العامِّ يمكنُ أن يلعبَ التّحوُّلُ الرَّقميُّ دورًا أساسيًّا، مثلًا إذا أَرَادَ المواطنُ أَن ينجِزَ معاملةً ما، سيقلقُ من ضياعِ نهارٍ كاملٍ لِهذهِ العمليَّةِ مع تَعبئةِ البنزينِ، ودفعِ بَدَلٍ للوقوفِ في الصفِّ ساعاتٍ طويلةِ على أَملِ الحصولِ على هذه الورقةِ. فيما لو تمَّ العملُ على إِدخالِ التّحوُّلِ الرقميِّ إِلى الإداراتِ العامّةِ، ستكون الخدمةُ متوفِّرةً عبر الإنترنت، حيثُ سيتمُّ تَقديمُ الطَّلبِ عن بعدٍ مع وضعِ الهويَّةِ للإستعلامِ عن الشّخصِ. ليس هذا سوى مجرَّدُ مثلٍ بسيطٍ حولَ التّغييرِ الذي بامكانِ التكنولوجيا أن تُحدِثَهُ فِي الإداراتِ العامَّةِ، فهناكَ خدماتٌ أُخرى أيضًا يمكنُ أَن نستفيدَ مِنها بواسطةِ التَّحَوُّلِ الرقميِّ. وتساعدنا على تخفيضِ القيمةِ التشغيليَّةِ لهذهِ المؤسّساتِ، فبدلًا من أن يكونَ لدينا خمسُمئةِ ألفِ مُوظَّفٍ في الدَّولةِ يصبحُ لدينا مئةُ ألفٍ وهذا يوفّرُ على الدَّولةِ تكاليفَ رواتبَ ضخمةٍ.
أمّا مستقبلًا، على المدى المتوسِّطِ و البعيدِ، ما يطرحُهُ خبراءُ التّحوُّلِ الرَّقميِّ منطقيٌّ، ذلكَ أنّ الدُّولَ التي تعجزُ عن السّيرِ برَكبِ الاقتصادِ الرَّقميِّ ستخْرُجُ من النِّظامِ الاقتصاديِّ العالميِّ، وتتحوَّلُ إلى جُزرٍ متخلفةِ. ولكي لا يسقُطَ لبنان في هذا القاعِ،لا بدَّ من البدءِ بالعملِ على تطبيقِ بعضِ الرّكائزِ الأساسيَّةِ للاستفادَةِ من منافعِ الإقتصادِ الرَّقميِّ، تبدأُ من تقويَةِ البنيةِ التّحتيَّةِ الأساسيَّةِ لتسهيلِ الحركةِ التِّجاريَّةِ من موانئٍ و مرافئٍ حيويَّةٍ و إصلاحِ قطاعِ الطّاقةِ و المياهِ، إلى تدعيمِ البنيةِ التّحتيَّةِ الخاصّةِ بالتكنولوجيا الرقميَّةِ التي تتمثَّلُ بشبكةِ الإنترنت و الأليافِ البصريَّةِ و رفعِ السِّعةِ التخزينيَّةِ و الخدماتِ الحكوميَّةِ المقدَّمةِ الأفرادِ و الشَّركاتِ. دونَ أن نغفلَ عن تشجيعِ الاستثماراتِ و تعزيزِ الإمكانيّاتِ بدءًا من توفيرِ تقنيّاتِ الأمنِ السيبرانيِّ و الذَّكاءِ الإصطناعيِّ وصولًا إلى إدخالِ الرّوبوتّاتِ في القطاعاتِ الإنتاجيَّةِ. أخيرًا، لا بدَّ من تعزيزِ القُدراتِ البشريَّةِ و توجيهِ الشَّبابِ إلى القطاعاتِ التكنولوجيَّةِ التي ستكونُ لها الكلمةُ الفصلُ في المستقبلِ.
لا شكَّ أنّ التَّحوُّلَ الإقتصاديَّ المنشودَ لن يكونَ سهلَ المنالَ، ولكنَّهُ ليسَ أمرًا مستحيلًا رغمَ كلِّ الصِّعابِ، شرطَ إستغلالِ الإمكانيّاتِ و الطّاقاتِ المُتاحةِ، و إنجازِ الإصلاحاتِ المطلوبةِ، و تظافرِ الجهودِ بينَ الجهاتِ الرَّسميَّةِ و الخاصّةِ علّهُ يكونُ طوقَ نجاةٍ يُنقذُ ما تبقّى في بلدٍ مترهّلٍ، فهل من مجيبٍ؟