وَبِلَمْحِ البَصَرِ، مقال بقلم✍️ مزين حجازي

وَبِلَمْحِ البَصَرِ، مقال بقلم✍️ مزين حجازي


يُراودُني ذَلِكَ الحُلْمُ مِرَرًا أَنَّني مَا زِلْتُ فِي حُضْنِ أُمِّي نَائمًا أحيَا بسلامٍ بعيدًا عن ضجيجِ ذلك العَالَمِ حَيْثُ لا مَشَاكِلَ وَلَا مَكَانَ لِلْهُمُومِ، حَيْثُ لَا أَشْعُرُ إِلّا بِالدِّفءِ وَلَا أَنْعَمُ إِلَا بِالرَاحَةِ وَالطُمَأْنِينَةِ، لا زِلْتُ أَشْعُرُ بِخُصلَاتِ شَعْرِي تَتَشَابَكُ بَيْنَ يَدَيْها، لَا زِلْتُ أَذكُرُ كَلِمَاتِ القِصَّصِ الّتي تَبْدَأُ بِكَان يَا مَا كَان، وَفِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَتَرْتَسِمُ السَّعادَةُ عَلى وَجْهِي وَأَقُولُ لَها:
“أمي!. بالله عَلَيْكِ لَقَدْ حَفِظْتُ القِصَّةَ دَعِيني أَرْوِيها لَكِ”.
أَيَّامٌ مِنْ طُفُولَتِي لَا زَالَت فِي رُوحِي عَالِقَةً، وَآهٍ، كَمْ تَأَخَرَّ الوَقْتُ لَفَهِمْتُ أَنَّ دَعْوَتِي تِلْكَ مَتى أُصْبِحُ كَبِيرًا؟ كَانَت هَفْوَةَ لِسَانٍ، ويَا لَيْتَنِي لَمْ أُصْبِح كَبِيرًا. يَا لَيْتَ الزَّمَانَ يَعُودُ بِي طِفْلاً لِأَلْهُوَ فِي الشَّوَارِعِ مَعَ الأَوْلَادِ، أَرْكُضُ رَافِعًا يَدَيَّ وَأَصْرُخُ وَأَضُجُّ وَأَشْتَرِيَ المُفَرْقَعَاتِ، وَأُعِيدُ كَسْرَ زُجَاجِ النَّافِذَةِ لِجَارِنا، وَأَهْرُبُ وَهُو يَصْرُخُ عَليَّ: “سَأَكْسِرُ لَكَ رَأْسَكَ، عُدْ إِلَى هُنَا في الحَال”.
وَيَا لَيْتَ الزَّمَانَ يَعُودُ بِي إِلَى مَدْرَسَتِي، إِلَى أَوْقَاتِ الفَرَاغِ إِلَى الدَّفَاتِرِ وَالأَقْلامِ، إِلَى الحَقِيبَةِ المَمْلُؤَةِ بِالطَّعَامِ، إِلَى رَسَائِلِ الحُبِّ السِّرْيَةِ المَمْلُؤَةِ بِالغَرَامِ.
يَا لَيْتَ السَّاعَاتَ تَغْفُو وَتَعُودُ إِلَى لَحَظَاتِ الصِّبا، وَيَا لَيْتَنِي إِلَيْها أَعُودُ، وَكَم يَعِزُّ عَلَيَّ سِنِيْنُ الرَّحِيلِ، كَمْ يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَمْضِيَ فِي الحَنِينِ، يَقْتُلُنِي أَنَّ العُمْرَ الّذِي بَقِيَ لِي مَا عِدْتُ أَرَى السَّعَادَةَ فِيِه… يَقْتُلُنِي أَنْ لَا أَجِدَ مَا يُفْرِحُنِي بَعْدَ حِيْنٍ، أَنْ أَظَلَّ وَاقِفًا بَيْنَ المَاضي والحَاضِرِ سَجين. وَأَمْضِيَ فِي الحَيَاةِ شَارِدًا لَا أَبْصِرُ أَيَّ بَصِيْصِ أَمَلٍ، لَسْتُ يَائِسًا، كَلَا، وَلَكِني أُصَارِعُ الذِّكْرَيَاتِ الحُلْوَةَ بِمُرِّهَا وَتَنْتَفِضُ ذَاتِي وَتَنْقَبِضُ رُوحِي، تَبًا لِكِتَابَاتِي الَّتِي مَا غَادَرَتْ ذَلِكَ الغِلَافَ، بَقِيَتْ سَجِينَةَ صَفَحاتٍ، وَأَوْرَاقٍ لَا تَعْرِفُ سَبِيلَ الفَرَارِ مِنْهُ أَوْ الانْطِلاق. وَأَعُودُ لِلْوَاقِعِ وَمِنْ ثُمَّ أَعُودُ مِنْ غَفْوَةٍ دَامَتْ ثَلاثَ دَقَائِقٍ، فأغْسِلُ وَجْهِي بالمَاءِ، وَأَذْهَبُ إِلَى المَطْبَخِ لِأحْتَسِيَ كُوْبًا مِنَ القَهْوَةِ وَأَجْلِسُ عَلَى تِلْكَ الأَرِيْكَةِ التَّافِهَةِ، وَأُشْعِلُ سِيْجَارَةً، وَأسْرَحُ عَلَى شُرْفَةِ المَارَةِ أُرَاقِبُ النَّاسَ وَالضَّجِيْجَ، لَعَلِيَّ فَقَطْ أَسْتَرِيْحُ مِنْ هُمُوْمِ الحَيَاةِ، لَكِنَّني أَخْتَنِقُ مُجَدَدًّا، لَا أَعْلَمُ إِنّ كَانَ دُخَانُ تِلْكَ السِّيِجَارَةِ بِسَوَادِهِ يُوَازِي دُخَانَ العَتْمَةِ عَلَى أَفْكَارِي وَتَنْسَدِلُ السِّتَارَةُ وَأَسْمَعُ تَصْفِيْقَ الجُمْهُورِ.
أَرَى دُمُوْعَ بَعْضِهِم، وَأَرَى ضَحِكَاتِ بَعْضِهُم وَهِتَافَاتٍ أُخْرَى، و تَصْفِيْقٌٍ بحرارةٍ، فَأَبْتَسِمُ كَعَادَتِي وَأَشْكُرُ جُمْهُورِي الحَبِيبَ وَأَمْضِي إِلَى الكَوَاليسِ، أَمْضِي إِلَى الغُرْفَةِ لَأَضَعَ المَسَاحِيْقَ وَأَمْسَحَ عَلَامَاتِ الإِرْهَاقِ، فَأَنْظُرُ إِلَى المِرْآةِ مُجَدَدًّا لِأُبْصِرَ وَجْهِي الكَئِيبَ، وَمِنْ أَيْنَ يَا تَرى صَدَى ذَلِكَ الضَّجِيجِ مُجَدَدًا؟
فَأَنْظُرُ خَلْفِي أَرَى بَابً كَبِيراً، أُقْبِلُ نَحْوَهُ بِخَطَواتٍ صَامِتَةٍ وَأَنَا فِي ذُهُوْلٍ وَحِيْرَةٍ، وَأَفْتَحُ بِرَوِيَّةٍ ذَلِكَ البَابَ فَأَسْمَعُ ضَوْضَاءَ أَكْثَرَ وَكَأَنِّي بِنَفَقٍ تَائِهٍ لَا أَبْصِرُ سِوَى أَضْوَاءٍ بَيْضَاء، أَفْتَحُ عُيُونِي فَأَرَى كَوَادِرَ مِنَ الأَطِبَاءِ تَجَمَعُوا حَوْلِيَ لَكِنّي لَا أَسْتَطِيعُ الاسْتِيقَاظَ وَكَأَنَّ ذَلِكَ الدُّخَانَ يَحْبِسُ الهَوَاءَ عَنْ نَفَسِي، وَرَأْسِي مَا زَالَ يَلُفُ وَيَدُورُ.

وَأَخِيرًا، سَمِعْتُ صَافِرَةً دَقَتْ كَالطُّبول، تَوووووووت توووووووت. وإِنْتَهَتِ الحَيَاةُ وَذَبُلَتِ الحُرُوفُ، وَدَاعًا، فَإنَّ لله وإنَّ إِلَيْهِ رَاجِعُون، كَلِمَاتٌ سَوْدَاءٌ كُنْتُ أَقْرَؤهَا عَلَى قَبرِي قَبْلَ أَنْ أَنْطَلِقَ لِرِحْلَةٍ أُخرَى لَا يَسَعُنِي أَنْ أَخْبِرَكُم بِتَفَاصِيلِها أَو أَرْوِي لَكُمْ مَا جَاءَ فِيها، كُلُّ مَا يَسَعَني قَوْلَهُ كَانَ وَمَا زَالَ بَيْنَ أَيْدِيكُم، وَدَعُوني أَرْحَلُ عَسَى أَنْ أَكُونَ قَدْ تَرَكْتُ بَيْنَكُم إِبْتِسامَةَ أَمَلٍ أَو ْ حُبٍّ دَافئٍ مِنْ َبعْدِ أَلَمٍ.
سَامِحُو القُلُوبَ، إِسْترُوا العُيُوبَ، فَاليَومَ نَجْتَمِعُ، و غدًا لا نَدْرِي أَيْنَ سَنَكُون.
إِنّ أَحْبَبْتُم فَأَخْلِصُوا، إِنّ أُؤْتُمِنْتُمْ فَلا تَخُونُوا، إِنَّ كُلَّ رَجَائِي أَنْ تَحْفَظُوا ذِكْرايَ بَيْنَكُم، وَلَاتَنْسُونِي بِفَاتِحَةٍ وَدُعَاءٍ.