نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ التَّعَلُّمَ وَالثَّقَافَةَ رُكنانِ ضَرُورِيّانِ فِي الحَيَاةِ. وَلَكِنْ، مَاذا لَوْ كَانا خَطَرًا عَلَى المُثَقَّفِين؟يَسْعَى الفَرْدُ مِنا إِلَى التَّعَلُّمِ وَاكْتِسَابِ المَعْرِفَةِ وَالمَهَاراتِ وَذَلِك لِلإِعْتِمادِ عَلَى النَّفْسِ وَتَحْقِيقِ مُسْتَوَى مَعِيشيٍّ وَثَقافِيٍّ وَإِجْتِماعِيٍّ أَفْضَلَ.
تَشْمُلُ الثَّقَافَةُ العَدِيدَ مِنَ الأَنْواعِ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى كِتَابٍ فَقَط، حَيْثُ أَنَّ ثَقَافَةَ الفِكْرِ وَالثَّقَافَةَ الإِجتِمَاعيَّةَ وَغَيْرِها تُعَدُ أَحْيَانًا أَهَمّ مِنَ الكِتابِ نَفْسِه.
فِي حِين إنَّ هَذِهِ الأُمُورَ تُشَكِّلُ خَطَرًا عَلَى أَصْحَابِهَا، أَكَّدَتْ بَعْضُ الدِّراسَاتِ العِلْمِيَّةِ أَنَّ العَدِيدَ مِنَ الأَشْخَاصِ المُثَقَفِين يُصابُون بِأَمْراضٍ نَفْسِيَّةٍ كَالإِكْتِئابِ وَالقَلَقِ وَالإِضْطِرابِ ثُنائِيِّ القُطْبِ، حَيْثُ أَكَّدَ الدُّكتُور عَادِل صَادِق (الأَمِينُ العَام السّابِق لإتَحادِ الأَطِباءِ النّفسِيين العَرَب) أَنَّ الإِكْتِئابَ هُوَ مَرَضُ “الأَذْكِياءِ وَالمُثَقَّفِينَ” حَيْثُ أَثبَتَ بِقَولُ لِلْمُتَنَبِي: “ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ، وَأَخُو الجَهالَةِ فِي الشَّقاوَةِ يَنْعَمُ”. يُعَدُّ الفَرْقُ بَيْنَ الإِنْسانِ المُثَقَّفِ وَالغَيْرِ مُثَقَّف هُوَ أَنَّ الأَوَّلَ يَبْحَثُ دَائِمًا عَنِ الفَارِقِ بَيْنَ الحَاضِرِ وَالمَاضِي وَالمُسْتَقْبَلِ وَدَائِمًا مَا يُفَكِّرُ بِالعَواقِبِ قَبْلَ أَنْ يُقدِمَ عَلى شَيّءٍ، وَيَشْعُرُ بِالإِحْباطِ إِذَا مَا وَجَدَ إِهْتِمَامًا تُجَاهَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ إِنْجَازٍ حَيْثُ سَيَجِدُ نَفْسَهُ غَيْرَ جَدِيرٍ بِه وَأَنّهُ فَاشِلٌ وَذَلِكَ لِمَعْرِفَتِهِ بِالعُظَمَاءِ، فَمَثلاً إِنْ كُنْتَ كَاتِبًا أَي أَنَّكَ شَخْصٌ يَعْلَمُ بِوُجُودِ المُتَنَبّي، مَحْمُوُد دَرْوِيش، نِزَار قَبَانِي وَغَيرِهِم، فَإِنْ لَمْ تَجِدَ أَيَّ إِهْتِمامٍ لِمَا تَكْتُبُهُ سَتَشْعُرُ أَنَّكَ لَنْ تَصِلَ إلَى مَا وَصَلَ إِلَيه هَؤُلاءِ وَستُصَابُ بِالإِكْتِئَابِ أَوِ الإِحْبَاطِ، فِي حِين أَنَّ الغَيْرَ مُثَقَّف سَيَعِيْشُ الوَضْعَ كَمَا هُوَ وَلَنْ يَبْحَثَ عَنْ أَي تَفْصِيلٍ لأَنَّهُ عَلَى غَيرِ مَعْرِفَةٍ. وَأَيضًا فَإِنَّ سَيْطَرَةَ العَقْليّّةِ “المُنَافَسَة،” وَتَفَشّي الكَذِبِ وَالعُنْفِ وَالخِدَاعِ، يَضَعانِ المُثَقّفَ فِي مُوَاجَهَةِ حَقَائِقٍ قَيِّمَةٍ سَلْبِيَّةٍ تَدْفَعُهُ إِلَى المَزِيدِ مِنَ الإِحْبَاطِ. وَيَنْبَغِي فِي هَذَا الصَّدَدِ أَيْضًا أَنْ تُضَافَ إِلَى ذَلِكَ حَالَةُ التَّرَاجُعِ الثَّقَافِيِّ العَامِّ فِي العَالَمِ عَامّةً.
وَهُوَ مَا يَتَمَثَّلُ فِي سَيْطَرَةِ رُؤُوْسِ الأَمْوالِ عَلَى الإِعْلَامِ، وَفِي سَعْيِها إِلَى خَلْقِ إِنْسانٍ مُسْتَهلِكٍ بَعِيدٍ عَنِ الثَّقَافَةِ، كَمَا يَتَمَثَّلُ فِي فَرْضِ نِظَامٍ عَالَمِيٍّ إِقْتِصَادِيٍّ سَرِيعٍ يُحَوِّلُ الِإنْسانَ إِلَى لاَهِثٍ خَلْفَ لُقْمَةِ العَيْشِ وَهُوَ مَا يُقَلِّلُ مِنَ الوَقْتِ المُخَصَصِ لِلْنَّشَاطِ الثّقَافِيِّ.
وَفِي عَالَمِنَا العَرَبيِّ بِشَكْلٍ خَاصٍ، نُلاحِظُ الغِيابَ التَّدْرِيجيَّ لِلْكِتابِ، وَلِلْنِّقاشِ الثَّقافِيِّ، وَلِلْمُنْتَدَياتِ الثَّقَافِيَّةِ الحِوَارِيَّةِ مَا يُدْخِلُ المُثَقَّفِينَ فِي دَوَّامَةٍ مِنَ الإحْباطِ، سَبَبُهَا تِكْرارُ الأَفْكَارِ وَقِلَّةُ التَّجْدِيدِ.
وَأَخيرًا، رُغْمَ كُلِّ هَذا فَإِنَّ الثَّقَافَةَ عَلَى كَافَّةِ أَنْوَاعِها لَهِيَ شَيّءٌ مُهِمٌ وَلا يَنْبَغِي لِلْفَرْدِ أَنّ يَتَجَاهَلَها، بَلْ عَلَيهِ أَنْ يَتَثَقَّفَ وَيَسْعَى دَائِمًا إِلَى الأَفْضَلِ.