وراءَ الجدرانِ تتوارى قصصٌ مكبَّلَةٌ تنتظرُ الإِفرَاجَ عنها.
من سيبوحُ بِها أَو يكتبُ عنها؟ وأيُّ عدالةٍ اجتماعيَّةٍ ستُصغي إِليها من خلفِ الْقضبانِ؟ فوراءَ الجدرانِ صرخاتٌ مكتومةٌ لم يصل صداهَا إِلى أحدٍ، صامدةٌ رغمَ كلِّ الصّدماتِ والكدماتِ النفسيَّةِ والجسديَّةِ. وها هيَ “ولاءُ” التي لم تعلم أنَّ الصُّحفَ ستكتُبُ عنها يومًا ما . سرقَ زواجهَا أحلامَ العشرينَ والَّتي ذكرَها مواقعُ التواصلِ الإِجتماعيِّ لتكونَ عِبرَةٌ لِكُلِّ مَن ضربَ إِمرأَةً بِقَسوَةٍ. فَصرَخاتُ “ولاءٍ” لَمْ تَشفَع لها عندَ زوجهَا “علاءٍ” فكانت تزدادُ بِأَلوانِ الورَمِ الأَزرقِ كأنَّها لوحةٌ تنتشرُ وتتوزَّعُ الوانُ العذابَ على زوايَا جسدِهَا وَهو الَّذي كان يُمارِسُ فَتوتهُ عليهَا .وَكيفَ لا يفعلُ وَهوَ حارسٌ لِنادي لَيلي . فكانت المعاملةُ كأَنَّها كائِنٌ غيرُ بَشريٍّ لَا بُدَّ مِنْ زَجِّها في قفصٍ أَو بينَ جدرانٍ عاليةٍ يصعبُ تسلُّقها، فحِرمانُها مِنْ حُقوقهَا وَالإقتصاصُ مِن أغصانِها كيْ لَا تزدادَ في التمدُّدِ ولربَّما التمرُّدِ.
ولاءٌ كُتِبَ اسمُهَا في ملفَّاتِ الشُّرطةِ وعلى جميعِ مواقعِ التَّواصلِ الِإجتماعيِّ كانت تعتبِرُ شريكها هوَ سندهَا وبإِعتقَادهَا أَنَّها دخَلت القَفصَ الذَّهبيَّ فلَم تعلم بِأَنَّها كانت مَأسورةً تحتَ أَجنِحةِ رجلٍ نَرجسيٍّ لا يحترمُ معنَى التَّاءِ المربُوطةِ . ضربٌ وإهانةٌ، متطلَّباتٌ محرُومَةٌ وكأَنَّهَا لَا تَملكُ أحاسيسَ.
فَكَم هيَ قاسيةٌ تلكَ اليدُ الَّتي تصفعُ دُونَ حسابٍ ..كَم هيَ مُؤلمةُ تلكَ الصَّفعاتُ المُتلَاحقَةُ على وَجهِ زَوجةٍ أَرادت من زواجهَا السُّترَةَ ورضا زوجٍ أَرادَ تسخيرهَا لخدمتهِ.
فهكذا تُعانِي المرأَةُ في المُجتمع العربيِّ، تُضربُ تَحتَ حُجَّةِ العاداتِ والتَّقاليدِ .تُضربُ لأنَّها قصَّرت في عملهَا المنزليِّ أو لرُبَّما لأَنَّها مرِضت او لأَنَّها لا تُنجِبُ طفلًا أو لأنَّها تطلبُ الحرِّيَّةَ في العيشِ فإِلى متى سيبقَى الرجلُ يُمارسُ فتوتهُ على المرأَةِ وَمن سيحمِي تلكَ الزَّوجةَ من الأَيادي الظَّالِمةِ.؟
فَفي الآونةِ الأَخيرَةِ كثر الحديثُ عن حوادثِ العنفِ الأُسرِيِّ بمختلفِ الدُّولِ وأَصبحنَا نسمعُ بِشكلٍ مُتزَايدٍ عن حوادثٍ صادمةٍ تصاعدت فيهَا حدَّةُ العنفِ بينَ أَفرَادِ البيتِ الواحدِ ،ففي لُبنانَ كشفت قُوى الأَمنِ الدَّاخلِيِّ باستقبالها ألف وثمانيةَ عشر بلاغِ عنفٍ أُسريٍّ على الخطِّ السَّاخنِ،ألف وسبعمئةٍ وخمسة واربعون بينَ بدايةِ شَهرِ كانونَ الثَّانِي ونهايةِ آب ألفان وعشرون، مقابِلَ أربعمئة وثمانية وخمسون بلاغ سُجِّلَ في ألفان وتسعة عشر، أَي بِفارقِ خمسمئة وستون شكوَى وزيادةِ ما يُقَارِبُ 122.2%.
الإِرتفاعُ إنحسبَ أَيضاً على إِحصائيَّاتِ المنظَّماتِ النِّسائيَّةِ المعنيَّةِ بِمناهضةِ العنفِ ضدَّ النِّساءِ،منظَّمةُ أَبْعادٍ تلقّت بِدورها بينَ بِدايةِ شهرِ كانونَ الثَّاني وَنِهَايَةِ آب من العامِ ألفان وعشرون ثلاثة آلاف وخمسة وثمانون إِتصالًا مُقارنةً مع ألف ومئة وثلاثة وتسعونَ في الفترةِ عينها من العامِ ألفان وتسعة عشر، بزِيادةٍ 158.5٪.
فهذهِ النِّسبةُ كانت تزدادُ بينَ الفَترةِ والأُخرى ،فلم تقِف فَقط على “ولاء” وَعلَى العنفِ الِأسرِيِّ في لُبنانَ بل ايضًا تطاولت على الدّوَلِ العربِيَّةِ .
فهناءُ خصرٍ جاثِيةٌ على رُكبتيهَا، مُرغمةٌ على رَفعِ يَديهَا، وَهيَ تتعرَّضُ لِلضَّربِ والإِهانةِ مِن قبلِ زوجِها، الَّذي لَم يَخشَ حتَّى ممَّا يَرتكبهُ بل قامَ بتوثِيقِ جريمتهِ، مُطْلِعًا ضحيَّتهُ بأنَّهُ سيقومُ بإرسالِ المقطعِ المصوَّرِ إِلى شقيقتهَا لِكي تُشاهدهَا والدتَها.
هَذا ليسَ مشهدًا من مُسلسلٍ تلفزيونيٍّ بل واقعَةٌ حقيقِيَّةٌ تَعكِسُ رِحلةَ مُعاناةِ اللُّبنانِيَّةِ غنوةَ رامحِ علَّاوِي، معَ زوجها الرَّتيبِ في قُوى الأَمنِ الدَّاخليِّ عيَّاش طرَّاقٍ.
فهل يا ترى القانونُ سيردُّ الحقَّ ويُحاسبُ مَن تسبَّبَ بِالعنفِ الأُسرِيِّ؟ لكن، ما دورُ الجمعيَّاتِ النِّسائيَّةِ هنَا، وكيفَ تواجهُ هذهِ التحدِّياتُ فتقولُ المادَّةُ مئتان وثلاثة وتسعونَ في القانونِ الَّتي تتعلَّقُ بالعنفِ الأسريِّ بِالإِعتقالِ سبعَ سنواتٍ، إِذا أدَّى العنفُ إلى التسبُّبِ بوفاةِ أحدِ أَفرادِ الأُسرةِ وأيضًا اذا تمَّ التجنِّي على الزوجةِ وغيرهِ لكنَّ فعاليَّةَ هَذه المادَّةِ وَقانونُها لا يؤثران بشيئٍ فلا زَالنا لِليومِ نتلقّى أخْبَارًا عن جرائمٍ وعُنفٍ لا يُعَدُّ ولا يُحصى.
ففي السَّنواتِ الماضيةِ قامَت الجمعيّاتُ النِّسائيَّةُ الَّتي تتعلَّقُ بِالمرأةِ والعنفِ الأُسريِّ سويًّا بحملةٍ إعلانيَّةٍ بشعارِ “كَفَى” بِسَبب ارِتفاعِ احصاءاتِ العنفِ وهذا نتيجةَ الِأوضاعِ الِإقتصاديَّةِ والإجتماعيَّةِ .
وفي هذَا السّياقِ. وَبينَ هؤُلاءِ هنالكَ أمًّا تبكي يوميًّا على أطفالهَا الَّذينَ يُضربونَ لأَسبابٍ غَيرِ مفهومةٍ ويشاهدون أُمَّهُم تبكي في زاويةِ الغُرفةِ منَ الجِراحِ والضَّربِ والتَّجنِّي فكيفَ لأَبٍ يضربُ طفلًا بعمرِ الثماني سنواتٍ لأنَّهُ يبكي ليلًا. أو لأَنَّهُ كانَ يطلبُ لُعبَةً والأختُ الصَّغيرةُ تُحبُّ اللَّعبَ معَ أصدقائهَا فكانت تُضربُ دونَ أسبابٍ مَفهومةِ
صمتٌ ودموعٌ وَعُزلةٌ، أَغرقَت نساءً كثُرْ واطفال في حزنٍ وكآبةٍ، لِيُعَانوا وحدَهُم من عنفٍ نفسيٍّ موجِعٌ لا يستطيعونَ البوحَ بِهِ لأَحدٍ. فالطَّلاقُ مرفوضٌ والعودةُ إِلى منزلٍ و برفقةِ أَبنائهَا أَيضًا مرفوضٌ، فتبقى أَمامَ خيارينِ أَحلاهما مرٌّ إِمَّا أَن تبقى مَع زوجِهَا تعانِي ما تُعانيهِ بصمتٍ وإِمَّا أَن تخسرَ أَبناءَها وتذهبَ إِلى بيتِ أَهلها.
هذهِ الحقِيقةُ الَّتِي لطالَما حاولتُ إِخفاءهَا أَو مواراتهَا كانَ يراهَا زوجُهَا بِعينيهَا في كُلِّ مرَّةٍ يستقصدُ إِهانتهَا، فيزيدُ عنفًا وإستقواءً وإِهانةً ويمطرُ عليهَا وَابلًا مِن الشَّتَائمِ مُوقنًا بِداخلهِ أَنَّها ستأْخذُ جُرعةَ العُنفِ بصمتٍ ومن دونِ حَتَّى أَن تعترضَ.
إِهاناتٌ متكرِّرةٌ وتقليلٌ من الشَّأْنِ وقهرٌ نفسيٍّ لَم تكن تملكُ سوى الدُّموعِ ومزيدًا من التشبُّثِ بِأطفالها.
للأسَفِ إِنَّ المُعنِّفينَ لم يَتمكَّنُوا من ترويضِ أنفسهم. وقد خسرُوا بإِيذائهِم للمجتمعِ عامَّةً وللمرأةِ خاصَّةً الكثيرَ من مخزونِهم الإِنسانيِّ، لذلكَ هم يستحقُّونَ أَحكامًا مشدَّدةً. فالتَّردُّدُ في إِجراءِ كُلِّ التَّعديلاتِ المحقَّةِ،
فأَختمُ بصرخةٍ: أَما آنَ الأَوانُ لفكِّ الرِّباطِ عن عُنقِ التَّاءِ المربوطةِ؟!